ذ . إدريس حيدر
أُدْخِلْنَا إلى زنازن كبيرة ، و بمجرد أن عَلِم معتقلون سياسيون آخرون ، كانوا يقبعون في السجن قبلنا ،بحلولنا بالسجن ،التحقوا بنا .
كان اللقاء حارا ،أخويا و عاطفيا ،حيث بكى البعض متأثرا باللحظة و بلقاء رفاق تجمعهم بهم وشائج المحبة و الإيمان بالقيم المشتركة .
رُفِعت شعارات ،تردد صداها في كل أركان و زوايا السجن ، حيث ارعبت الإدارة و الحراس ، و كذا معتقلي الحق العام الذين لم يألفوا مثل تلك الظواهر.
بالفعل ،كانت لحظة مؤثرة اقشعرت لها الأبدان .
كنت منهمكا كغيري من المعتقلين السياسيين في تلك اللحظة الفريدة ، و في نفس الآن أتأمل في أولئك الرجال الذين كانوا امامي و هم من طينة خاصة و من عيار استثنائي ،شامخين كالصخر دفاعا عن الوطن و أبنائه، مقدمين التضحيات الكبيرة من دمهم و عرقهم كاعتقالهم و طردهم من العمل و هو مصدر قوتهم و قوت عيالهم ،و تعريض أسرهم بذلك للضياع ، و خضوهم لحصص من التعذيب القاسي ،الذي ترك لدى البعض وشما في الذاكرة و الوجدان .
و بالمناسبة فأغلبهم ،ابتلوا بعد الإفراج عنهم بأمراض فتاكة أخذتهم إلى القبور ،و بقي آخرون يقضون ما فضل لهم من الحياة و هم معاقون، معطوبون و مرضى يشتكون من أمراض قاتلة .
بعد قضائهم لحظات مؤثرة معنا ،انصرف المعتقلون الذين كانوا قد سبقونا إلى السجن ، إلى زنازنهم.
و ظللنا نحن المعتقلين الذين أُحيلوا على السجن حديثا ،نتبادل أطراف الحديث ،لأنه و أثناء الاعتقال التعسفي لم نتعرف على بعضنا البعض.
و هكذا حكى كل واحد عن الطريقة التي تم اعتقاله بها ،و كيف عُذِّب و نوع الأسئلة التي كانت تُطْرَحُ عليه .
و بين الفينة و الأخرى كان يؤكد أحدهم بأنه سُئِلَ عن شخص بعينه و نوع العلاقة التي تربطه به …الخ.
استمر الحديث طويلا و كان متشعبا و كأن المعتقلين كانوا في حاجة إلى الكلام ،بعد تلك المدة الغير القصيرة التي قضوها في المحبس صامتين ، و أحدث كلامهم و نقاشهم بعض الضجيج نظرا لعددهم الكبير .
و كان تلك الأحاديث تقطع من حين لآخر بشعارات أو اغاني ملتزمة يرددها الجميع ترفع في الغالب منسوب الثقة في ذواتهم و اختياراتهم الفكرية و السياسية .
و غالبا ما كانت الاغاني التي يتم ترديدها ل” ناس الغيوان ” او ” الشيخ إمام ” أو ” مارسيل خليفة ” أو ” أحمد قعبور ” .
فيما الشعارات كانت تتضمن : الافتخار بالانتماء للوطن و الاصطفاف بجانب الفقراء ، و الإعلان عن مقاومة الظلم و الاستبداد والحيف و الجور إلى آخر رمق.
انتهت تلك الأمسية في ساعة متأخرة من الليل و في ظلمة حالكة ، لأن إدارة السجن كانت تطفئ أنوار الزنازن في ساعات مبكرة .
كان المعتقلون السياسيون سعداء بلقاء بعضهم البعض و فرحين بيوم النصر القريب ، مرددين أغنية ” الشيخ إمام” :
” شيد قصور عل المزارع
من كدنا و عرق جبينا ”
نام الجميع كالأطفال نوما عميقا مطمئنين لاختياراتهم ،لوحدتهم و التي ستكون وسيلتهم الناجعة لتحقيق مبتغاهم و أهدافهم.
يتبع…