د : عزيز الهلالي
وجد النزوع الفردي تكثيفه النفسي والعاطفي في آلية التراسل كتعبير عن التحرر النفسي والاستقلال الذاتي، الأمر الذي جعل الذات تغتني بالامتلاء على مستوى الحضور، وليس من قبيل الصدف أن نجد القرن 18 قد تحول إلى قرن التبادل التراسلي، فكتابة الرسائل تعكس تطورا في ذاتية الفرد.أما في إطار الثورة الرقمية، فقد بات التراسل يكتسي مظاهر أخرى، تتجلى في تحويل الفضاء العمومي إلى فضاء مفتوح. وبما أننا أصبحنا جزء من مظاهر هذا التغيير،فقد تبلور هذا الحوار بسرعة، من خلال تبادل رسائل نصية ضمن تطبيق واتساب، وقد تطرقت مع صديقتي الشاعرة فوزية عبدلاوي إلى محاور تتعلق بعلاقة الشاعر بالسلطة، علاقة الشعر بالفلسفة، وإلى تجربتها الشعرية. وهذا نص الحوار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهلا صديقتي الشاعرة، أخبرك بأن السيد النائب عبد اللطيف العلوي عن ائتلاف “الكرامة”، تقدم بطلب إعادة دواوينه الشعرية سبق وأن أهداها إلى رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد, هل من حق الشاعر أن يطالب السياسي بإعادة كتبه, كيف تجدين هذا المطلب؟
صباح الأنوار صديقي الغالي، شكرا على كرم تقاسم الخبر، شدتني الرسالة جدا، ففيها من قيم المثقف الحقيقي الكثير، خاصة في علاقته بالسلطة، وتكشف عن استحالة اصطفافه إلى جانب الحاكم مهما كان مثقفا وعادلا، لأن السياسة ثوب يضيق على المثقف مهما وسع، فهي تحد من حريته واختياراته، وتجعله قلما تحت الطلب، وهذه أسرع وسيلة لتحجيمه، وقتل إبداعيته، لأن المثقف الحقيقي ملزم بأن يحافظ على مسافة احتراز بينه وبين السلطة، بوصفه ضميرا يفترض فيه الحياد وصرامة القيم.
هل تتفق معي؟
أتفق معك تماما، فالشاعر ضمير المجتمع، ينشر كلامه على حائط البوح المعلن، يدافع عن مبدأ من مكان صادق يختزن الألم والفرح ، لا يعرف للمكر أو النفاق ظلا، ولا يهادن خلف متاريس كلام مهترئ سياسيا، بل هو جانح على الدوام كريح عاتية تبحث عن مرفأ لاستقرار الكلمة والمحبة والعدالة والحق والتسامح…
كيف ينظر صديقي إلى الشعر من خلال الفلسفة؟
عندما نظرت إلى الفلسفة، قلت هذه قبلتي وهوسي وعطشي، ولما نظرت إلى الرواية قلت هذه أكبر لعلها فتنتي وجنوني، أما وأن أقع في أغلال الشعر فكان ذلك مسكني ووجودي، إنها عملية شبيهة بعنوان ديوانك”سأرسم لك البحر”، إنه فعل إغراق كائن في ملكوت نوراني قبسه المشع، هو الشعر.
كم هو رائع صديقتي الشاعرة أن نتبادل الكلمة من موقعين مختلفين ومتكاملين في ذات الوقت، موقع يسائل المعنى ويبحث في أطراف الهامش، يبحث عن ما يلهم الخفاء ليصير تجلٍ، وموقع عاشق للجمال ولسحر الصورة وروعة التخييل. أجد في حوار الشعر والفلسفة لغة هاربة من المخطوطات ومن الغباء ومن تحالفات شيطانية ماكرة.
فهل تعتقدين أن الفلسفة والشعر يمكن أن يبادرا إلى صياغة بلاغ مشترك عنوانه: من أجل رؤية عملية مشتركة؟
إن العلاقة بين الإنسان والمعرفة، علاقة عشق متجددة، ومتعددة الأوجه، ورحلتك معها كانت من أفضل منطلق لاكتسابها، وهو الفلسفة أم المعارف وقمة الحكمة، وما ترحالك بين بوابات المعرفة الأخرى إلا استذكار للمعارف المتحصل عليها من الفلسفة، وهو استذكار بالمعنى الأفلاطوني، لأن الفلسفة هي عالم المثل الفقيد، وكل المعارف بعدها ما هي إلا تجل لها وعرض من أعراضها، لذلك أنت محظوظ بما عرفت أولا، لأنه أمدك بمنظور فسيح وعميق لما بعده.
صحيح صديقتي الشاعرة، لا ندرك حقيقة الأشياء ونحن نعيش تجربة التيه في فراغ مظلم، تتجلى معاني الأشياء من خلال معاشرة التأمل والرفع من منسوب الأحاسيس وتعميق لغة الحوار، هناك تبزغ الشمس وينقشع الظلام.
دعني أسألك، لقد لاحظت أن قصائدك تجنح نحو عوالم الفلسفة، لماذا تغذي شعرك بنسائم فلسفية؟
في الحقيقة صديقي، إن مجد الشعر الحقيقي يكمن في انفتاحه على النظريات الفلسفية والعلمية، لتغذيه بالمقولات والرؤى المفتوحة على الاحتمالات، والأسئلة الوجودية والمعرفية والقيمية القلقة والمشوبة بالشك المنهجي، لأن مباحث الفلسفة هي نفسها مباحث الشعر الحقيقي، والأنساق الفكرية لا تنال حظها من جمالية الامتداد إلا شعرا خصوصا وأدبا عموما، لذا فمهمة الفلسفة والشعر، هي مسح الطاولة بالمعنى الديكارتي، وبناء فرضيات معرفة متحولة ارتقائية، تناوش المعرفة في عقر حصنها المنيع: الفلسفة…
هل أفهم أن النص الشعري في حاجة إلى قراءة فلسفية تثري خصوبته؟
وكأنما النص الشعري أو النثري وجود وكينونة أولية، وقراءته فلسفيا هو اشتغال على ماهيته، ولا معنى لوجود دون ماهية، وأيضا لا معنى لماهية دون وجود، فالعلاقة بينهما ( النص والقراءة) تتال زمني وتوال انتظامي، وهذا هو القلق الوجودي الأكبر الذي يعيد لنظام الأشياء توازنه: الوجود قبل الماهية…
هل ترى من جهتك أن الماهية تسبق وجود النص؟
في البدء كان الوجود، وجود نص ينتظم ذاتيا كحضور مستقل، ثم سرعان ما يتجاوز النص كوجود خطابات وثنية، ويتشكل كماهية، يضفي على ذاته مساحة الحرية، يتحرر من جحيم قراءات نتنة تفتقر إلى الصوت والجرأة والصورة والإرادة، لا وجود لنص بدون ماهية/ قراءة تضفي،بدافع رغبة عشق صوفية،سحر الامتلاء والبهاء على كينونته.
لكن دعني صديقتي الشاعرة، أن أعرب لك عن حالة التنافي بين مسحتك الوجودية والخلاص الروحي الذي تنشدينه من خلال أشعارك؟
كلنا مريد، صديقي، في حضرة الحرف /الشيخ، أنا أيضا من مريدي الحرف، أجد فيه وتدي الراسخ، أرقص حوله بتنورة الصوفي، ناشدة التجلي: تجلي المعنى والماهية… وفي المقابل لا أنكر أبدا وجودي المادي، وأنا متصالحة معه تماما، وأومن بأنه كينونتنا الصغرى، فيما روحنا هي الكينونة الكبرى المنطلقة دون قيود، وبفضلها نعيش حريتنا المطلقة، فلا غرابة في أن نرجح كفة هذه الأخيرة في تحديد هويتنا، ونرغب في أن نقبل ونحب بها، هي ليست رقصة صوفية ابتهالية في حضرة وثن، بقدر ما هي رؤية امرأة/ إنسان، ترفض أن ينظر إليها كجسد فقط.
وأنا اشتغل على نصوصك الشعرية، وقفت كثيرا عند عوالم الصراع التي سخرتي لها كل جهدك، صراع من أجل عالم خالص، الخير المحض الذي تنشدينه خال من كل الشرور، وقد كانت مطالبك في البداية أن تبتعد كل العوائق من أمامك حتى يتراءى لك الصفاء المحض، ثم تراجعت إلى الوراء تراجعا كبيرا حتى تنظري إلى ما يمكن النظر إليه، كنت أشعر أنك في هذه الرحلة ستعاني، وإذا بك أعلنت في قصيدة شعرية : أنا متعبة،هل يمكن أن نسخر جهد إيماننا من أجل عالم روحاني؟ يبدو لي أن قصيدة التعب قد قالت كل شيء.
صحيح صديقي، لقد قالت القصيدة كل شيء لكنها أبقت معي الكثير مما لا لغة تسعه، نص أنا متعبة، نص يراهن على أخذ مسافة احتراز من مقولات جاهزة، وتمثيلات عامية، عن المرأة وعن الأنوثة، ويتحدث عن تعب روحي أكثر منه تعبا جسديا، مستعرضا مراحل زمنية، موشومة بالكثير من القهر، ومن السلط المتسلطة على الأبدان والأرواح، والمشحونة بكم هائل من الموروثات الثقافية، التي تثقل كاهل أنوثة جنوب شرقية، وتضعها داخل أقفاص تجردها من الإرادة الحرة. إن النص هو إعادة اعتبار للمرأة، وقدرتها على التخييل والإبداع والخلق.
ما أستشفه من زاوية نظري الخاصة، هو أن الشاعرة فوزية معلقة على حبلين زمنين متباعدين: زمن مضى وعلى أسواره أزهار بابل، وزمن آت يُبشر ببناء مدينة الفاضلة، وبين الزمنين ثمة صراع مفتوح على طريقة بروميثيوس الذي أشفق على البشر ومكنه من قبس من النار. فهلا اتخذت صديقتي الشاعرة مساحة الهدنة من أجل إعادة ترتيب الأشياء والنظر فيها من جديد؟
أنا صديقي ساحة حرب معلنة، قبيلة من النساء يقمن في جسد واحد، يعشن وحدة المتشابهات، وصراع المتناقضات، أو ليس كل تطور يحدث وفق سيرورة: الموجود+النقيض=التركيب ؟ إنها رحلة تطور ارتقائية، فيها احتواء وتجاوز في نفس الذات، لما هو كائن بالفعل وما سيكون بالقوة..
وكل هدنة هنا، إن هي إلا نوع من الاستسلام، بل ونوع من الخروج عن قوانين الوجود، التي تجعل من الصراع والتناقض، الوسيلة الوحيدة للتطور والارتقاء…