دردشة !

2 نوفمبر 2025


بقلم : لبيب المسعدي :

أسئلة عديدة تتراكم في داخلي كالغيوم قبل عاصفة صيفية… مرة أخرى عادت تلك التساؤلات المصيرية التي أطاردها في دهاليز نفسي، كأنني في مطاردة ابدية مع شبح لا أراه إلا خيالا.
من أكون؟ هل أنا سِجل حافل بالمحاولات، أم أنا ضحية لروح قلقة لا تعرف الاستقرار؟ أنا الذي غيرت ولازلت أغير مسارات حياتي باستمرار، كمن يبني قصورا من الرمل على شاطئ تهب عليه رياح التغيير. كل مهنة جربتها كانت محطة في رحلة لا أعرف محطتها الأخيرة. من متدرب في بنك كشاب حديت الرشد والشواهد العلمية، إلى سائق سيارة أجرة في باريس مرورا بتقني الجودة بمصنع للسيارات وتقني انتاج بمصنع للفولاد، ومسير لشركة مواصلات خاصة بالشخصيات المهمة، وبائع خلف الهاتف لعقود الاشتراك بشركات الاتصالات وشركات توزيع الكهرباء ب Centre d’appels وبائع للصباريات والنباتات المنزلية ووووو…ألف مهنة ومهنة… نعم، لقد حملتني الحياة في أحضانها إلى عالم لم أحلم به يوماً، وغاصت بي في تجارب مهنيّة تشبهني ولا تشبهني في آن معاً. كانت بعضها كالثوب المستعار، يخنقني بحريره الغريب، ويُكوي جلدي بنار لا تنتمي إلى روحي.
لكني، برغم كل شيء، بعصاميتي المتعبة. تعلمت كما يتعلم الطفل المشي، يسقط مئة مرة ويقف في المئة والواحدة. تدربت حتى أتقنت، رغم العذاب الجسدي الذي كان ينحت جسدي، ورغم العذاب النفسي الذي كان يهز هويتي كالإعصار، ورغم العذاب المالي الذي كان يسرق مني أحلامي البسيطة.

والآن، ها أنا ذا… نادل في مقهى؟ لا، بل مسؤول عن طاقم الاستقبال والخدمات في مطعم جميل. كم هي سخرية القدر أن أصل إلى هذا المجال وهذا المكان في سنتين ونصف فقط! أتذكر نفسي ذاك المطرود من وطني الأم يوم دخلت مطبخ فندق مصنف بإمارة موناكو من الزاوية البئيسة كمنظف للأواني، حيث كانت يداي تغوصان في ماء الصابون الساخن، وحلمي يغوص في بحر من اليأس والتدمر وشيء من الندم.
لكن الأقدار، أحياناً، تبتسم لمن لا يزال يمتلك شجاعة النظر إلى الأعلى. بعد أسبوعين فقط انتشلوني من عالم الصابون والصحون، إلى عالم الضيافة والوجوه الباسمة. من مساعد نادل، إلى نادل، إلى مسؤول عن جناح خاص… صعدت السلّم بسرعة، لكن قدمي كانت تتألم من كل درجة.

والآن، في الأسابيع الأخيرة، وصلت نفسياً إلى مرحلة التساؤل والشك والرغبة في التغيير مرة أخرى. هل هذه دورة حياتي الأبدية؟ هل سأظل هكذا أبحث عن شيء لا أعرفه؟ أم أن قلقي هو وقود نجاحي، وعدم استقرارني هو سر تقدمي؟

أسئلة مصيرية أضعها بين يدي، وأحدق فيها كما أحدق في فنجان قهوتي في نهاية يوم طويل… لا أجد الجواب، لكني أعرف أن شيئا ما في داخلي يتحرك من جديد، كطائر يحس بقدوم الربيع، فيستعد لرحلة جديدة… لا يعرف وجهتها، لكنه يعرف أنه يجب أن يطير.
#لبيبيات

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading