
بقلم : احمد الشواي
في قلب مدينةٍ تعيش على وقع ساعاتها الصارمة، كان سامي أشبه بظلٍ يتحرك مع الزمن. حياته، مثل ملايين غيره، كانت تسير بخط مستقيم: بيت صغير، عمل متكرر، ووجوه عابرة. لكن ما لم يره أحد، هو أن هذا الخط المستقيم كان يخفي بداخله منحنيات صامتة، حلمًا قديمًا لم يمت تمامًا، كجمرٍ يتوارى تحت الرماد.
في عمله بمكتب البريد، كان سامي يوزع الرسائل كمن يوزع الأقدار. لم يكن يعرف أصحابها، لكنه كان يشعر أحيانًا أن بين الطوابع والطرود أنفاسًا بشرية، أملًا صغيرًا يبحث عن منفذ. وحين جاء ذلك الطرد الغامض، الكمان الصامت الذي لا يخص أحدًا، بدا الأمر كما لو أن القدر قرر أخيرًا أن يطرق باب حياته الموصدة.
أخذ سامي الكمان إلى بيته، وهناك، في الليل الهادئ، حاول أن يعزف. خرجت النغمات مشوهة، غير مكتملة، لكن شيئًا ما في داخله بدأ يتغير. لقد اكتشف أن الآلة لم تكن بحاجة إلى عازف محترف، بل إلى قلبٍ يؤمن أن في كل إنسان موسيقى ما تنتظر أن تتحرر.
صار العزف طقسًا يوميًا، ليس للآخرين، بل له وحده. ومع مرور الأيام، أحس أن تلك النغمات العشوائية تعيد ترتيب حياته الداخلية، كأنها تفتح نوافذ في جدران الروتين الصلبة. لقد فهم أن المواطن العادي ليس شخصًا بلا معنى، بل هو إنسان يعيش في مساحةٍ رمادية بين الحلم والواقع، وأن عزفه – مهما كان بسيطًا – هو طريقته في مقاومة الصمت الكبير للعالم.
وفي إحدى الأمسيات، خرج إلى الشرفة ومعه الكمان، وبدأ يعزف بينما كانت الأضواء تتلألأ في المدينة. لم يتوقف الناس في الشارع لسماعه، لم يصفق أحد، لكنه شعر أن النغمة وصلت، ليس إلى آذان الآخرين، بل إلى مكانٍ عميق في داخله، إلى الجمر الذي ظل ينتظر لحظة الاشتعال.
هكذا أدرك سامي أن الحياة ليست في ما يراه الجميع، بل في ما يخفيه كل إنسان خلف صمته، في ذلك الحلم الذي يولد صغيرًا وينتظر شجاعةً بسيطة ليعيش.
ح : 11/09/2025
.