فَصْلُ المَقال، فيما بَيْنَ تَوْحيدِ خُطْبَةِ الجمُعةِ، وَوَأْدِها مِنِ اتِّصال.

29 أغسطس 2025

 

Oplus_131072

بقلم الأستاذ : احمد العبودي .

مقدمة:
لم يكن متوقَّعًا أن يُمرَّر إجراء توحيد متن خطبة الجمعة في بتلك السلاسة، حتى لدى العاملين في الحقل الديني نفسه، وخطباء المنابر على وجه الخصوص. وقد حاول المدافعون عن هذا الإجراء/القرار تقديم جملةً من مبررات اعتبروها مقنعة، في حين تكشف القراءة المتأنية هشاشتها وتهافتها.
المبررات المعلَنة لتوحيد الخطبة:
يرى أنصار هذا المنزع أن الخطبة الموحَّدة(بفتح الحاء المشددة) ليست إلغاءً لروح الخطابة ولا إضعافا للتواصل الحي مع المصلين، بل هي ـ في نظرهم ـ وسيلةٌ للضبط والتوجيه، وتستند دعواهم ـ عموما ـ على ثلاث حجج أساسية:
1. ضبط المنابر وتعزيز الاستقرار العام: حيث يعتبرون أن الخطبة الموحّدة تغلق أبواب الاستغلال السياسي أو الفئوي للمنبر ، وتوحّد الكلمة وترصُّ الصف، بما يحقّق شعورا بالانسجام ويعزز عناصر الهوية المشتركة الداعمة لمكسب الاستقرار.
2. رفع مستوى الأداء اللغوي والشرعي: إذ يُفترض أن صياغة متن الخطبة من لدن هيئة متخصّصة يسدّ ثغرة الضعف اللغوي أو العلمي والفقهي عند بعض الخطباء.
3. حماية الخطبة من الارتجال والابتذال: فالاعتماد على نصّ مطبوع واحد ووحيد يقلّل ـ حسب هؤلاء ـ من احتمالية الوقوع في الأخطاء ويجنب الخطيب أي انزلاق محتمل، فضلا عن كونه يُحكم بناء الخطبة تنظيميّا ومنهجيا.
مناقشة المبررات:
هذه المبررات ، وإن بدت للوهلة الأولى وجيهة، فإنها تحمل في طيّاتها عوامل تهافتها؛ فـ”ضبط المنابر” لا يقبل مبرّرا لإلغاء شخصية الخطيب وحرمانه من التفاعل مع جمهور المصلين؛ لأن وسائل الرقابة والمساءلة متاحة دون حاجة إلى فرض نصّ مركزي جامد وربما ميت. فــ”دليل الإمام الخطيب والواعظ” يُعد إطارا مرجعياً رسمياً أعدّته الوزارة لتوجيه الأئمة والخطباء والوعّاظ في أداء مهامهم بما يتوافق مع التشريع والقوانين التي تسعى لِـ”ترشيد الخطاب الديني” ، أمّا “رفع المستوى الأداء”، فليس الحلّ فيه بالتحجير على الخطباء وإعفائهم من مسؤولية التخطيط والإعداد ، بل يكون ذلك ببرامج تكوين مستمرّ تُنمّي مهاراتهم الخطابية وترتقي بأدائهم المنبري، علما أن فيهم كفاءات منبرية كثيرة تملك ناصية الخطابة، تتقن الوعظ وتحسن الإقناع وتجيد فن التأثير والتأطير، ومنهم رؤساء مجالس علمية محلية وجهوية وأعضاء في المجلس العلمي الأعلى… وأما بالنسبة لـ”حماية الخطبة من الارتجال والابتذال”، فالمعالجة لا تكون بوأد الإبداع وإجهاض الابتكار، بل بتأهيل الخطيب وتزويده بأدوات النقد والانتقاء، وتمكينه من المقاربات الحديثة في البحث والإلقاء وتقنيات التواصل الجماهيري…وبذلك يتبيّن بكل يسر أنّ المبررات أقرب لذرائع تنظيميّة ، منها إلى رؤية إصلاحية متوازنة وراشدة.
الآثار السلبية لتوحيد متن خطبة الجمعة:
رغم ما قد يُقال عن بعض الإيجابيات كضبط المنابر وتوحيد الموضوع… فإنّ تداعيات توحيد الخطبة ومساوئها تكمن فيما يلي:
1. طمس معالم الخصوصية المحلية:
لكل جهة مجالية أو مدينة أو قرية قضاياها اليومية الخاصة، الاجتماعية أو الاقتصادية أو التربوية. والخطيب المحلي هو ضمير “الجماعة” والناطق الرسمي باسمها، أعلم الناس بما يناسب بيئته المحلية ووسطه السوسيو ثقافي، لكن الخطبة الموحدة غالبا ما تأتي بعيدة عن نبض المصلين، ولا تلامس حياتهم الاجتماعية وهمومهم. فليست قضايا شمال المملكة كجنوبها ولا شرقها كغربها إلا فيما كان عاما شاملا من هموم الوطن وتطلعات المواطنين.
2. إضعاف شخصية الخطيب وتقزيم دوره التأطيري:
عندما يُجبر الخطيب على تلاوة نص جاهز، يُحرم من تنمية مهارات البحث والإعداد والإبداع، فيتحول من داعية حيّ إلى “قارئ” جامد، تُهدر فردانيته وتضمر مهاراته الذاتية، ويُحرم المصلون من توجيهاته ونبوغه.
3. الجمود وانعدام التفاعل:
في المكاتب المكيفة تصاغ نصوص الخطبة الموحّدة، بلغة رسمية باردة لها حساباتها ومحاذيرها، لا تملك مقومات دفء الخطاب المنبري الحيّ، ولا تتجاوب مع أحداث الأسبوع أو المستجدات الطارئة، مما يُضعف علاقة الخطيب بجمهوره. بل يضعف أسباب المحبة والثقة بينهما، وذلك هو ما اعتبره البعض جزءا من استراتيجية تهدف إلى “تحنيط الخطيب” و”تنميط الخطبة” و”تدجين المصلين”
4. انصراف الناس عن الخطبة وزهدهم في فضل الجمعة:
حين يشعر المصلون أنّ الخطبة مكرّرة ومجترة أو لا علاقة لها بالظرفية المحلية أو الوطنية وبعيدة عن واقعهم، يقلّ اهتمامهم بالإنصات، ويغدو المنبر في نظرهم مجرد “خطاب إداري” لا صلة له بما هم فيه من ” محن وبلايا ورزايا”، وبذلك قد يتأخرون عن الحضور ويزهدون في فضل الوقت الأول…
5. تسييس المنابر:
عادة تُستعمل الخطبة الموحّدة أداةً لتمرير رسائل سياسية أو رسمية، ولا بأس في ذلك شريطة القيام بدورها التربوي والوعظي المفترض فيها، وإلأ فإن ثقة الناس بالمنبر قد تنزع أو تضعف على الأقل. لأن المنبر إنما أقيم ليحفظ التوازن بين حقوق الناس وواجباتهم.
6. تفاوت مستويات جمهور المصلين:
الخطبة الموحّدة لا تراعي تنوّع المصلين وتفاوت مداركهم العلمية؛ فقد يستصعبها بعض العامة، و قد تبدو سطحية جوفاء لا تشفي غليل بعض المتعلمين والمثقفين.
7. قتل روح التجديد والإبداع:
فرض خطبة مركزية موحدة يضعف التنوع في الأساليب والأمثلة، ويجرّد الخطيب من حافزية الابتكار، فليس خطيبا من ليس قادرا على إنشاء خطبته، يصوغها وفق منهجيته الخاصة وأسلوبه المناسب. والواقع أن كثيرا من الخطباء يشعرون بالحرج إزاء الوضع الجديد المفروض عليهم، لأنه قيَّد حريتهم وأثر على علاقتهم بجمهورهم من المصلين. وهم في ذلك مكرهون رغم ما يقال عن كون الخطبة الموحدة اختيارا غير ملزم.
خلاصة:
إنّ توحيد خطبة الجمعة، يخفي وراءه آفات حقيقية تنعكس على حيوية المنبر وأدواره الطلائعية وفاعلية الخطاب الديني كما عهده المغاربة منذ قرون. فالخطيب ليس موظفًا يتلو ويرتل ويدعو وفق قوالب جاهزة، بل هو مربٍّ وواعظ ومبدع يتفاعل مع قضايا الناس الراهنة. والحلّ الأمثل لا يكمن في فرض خطب جاهزة معلبة ، بل في تأهيل الخطباء وتطوير كفاءاتهم وتوعيتهم بوظيفة البلاغ المبين وقضايا الأمة، مع الحفاظ على روح التنوّع وانفتاح المنبر على الواقع وجعل قضايا الناس في قلب اهتمام منبر الجمعة. فبذلك وحده يتعزز الاستقرار ويتحقق الانسجام المنشود، من غير أن نفقد وهج المنبر وصدقه وفاعليته وجمالية وظائفه. – أحمد العبودي –

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading