
بقلم : ذ.محمد الشدادي
في بيت لا يعرف السكون، ولد راجع، كان الصراخ بين والده ووالدته هو النشيد اليومي الذي يوقظه صباحا وينام عليه ليلا.
والده كان رجلا محافظا على الصلاة، لا تفوته تكبيرة الإحرام، لكن يده كانت لا تفوت فرصة لتعنيف والدته. كان راجع يراه يخرج من المسجد، ثم يصرخ في وجه أمه، يجرحها بالكلمات، وأحيانا بما هو أكثر. فبدأ يسأل نفسه: إن كان هذا هو الدين، فلماذا أؤمن به؟ ربط بين الصلاة والقسوة، بين الإيمان والظلم، وبين تدين والده والدين، فبدأ يرفض كل شيء.
في مراهقته، تمرد، ترك الصلاة، وسخر من الدين، واعتبر الإيمان ضعفا. كان يصرخ في وجه السماء، لا لأنه يكره الله، بل لأنه لم يشعر يوما أن الله يسمعه. ظن أن الحرية تعني أن يرفض كل شيء، حتى ذاته.
ثم جاءت الجامعة، وهناك التقى بها… هاوية.
كانت مختلفة، واثقة، تتحدث بحرية مفرطة، وتضحك بصوت عال كأنها تتحدى العالم، لكنها كانت تحمل في عينيها شيئا لا يفسر… حزنا مقنعا بالضحك.
كانت تقول: الدين مجرد قصة قديمة، اختلقها الإنسان بعد أن عجز على قهر الطبيعة، فوضع قوانين وعادات قيدت تفكيره وحركته، فرقت بين الذكر والأنثى، واستغلت المرأة أشد استغلال، بدعوى أنها أوامر إلهية، أنا أؤمن بالحرية، لا بالقيود.
كل هذا جعلها تتمرد على كل شيء، تمردت حتى على شكلها الأنثوي. كانت تمشي كأنها تفر من مرآتها، قصت شعرها حتى اختفى ظل الأنوثة التي كان يغطي أجمل ما فيها، تمردت على ثوابت بلدها وقيم مجتمعها، لا حبا في التغيير، بل رفضا لصوت داخلي يقول هكذا يجب أن تكوني. في عينها غضب لا يفسر، وفي خطواتها بحث عن هوية لم تعد تعرف إن كانت أنثى أم شيء آخر لا اسم له.
لم تكن ثورتها على الثوابت مجرد نزوة، بل كانت صرخة مكتومة ضد قوالب جاهزة خنقتها منذ الطفولة. كل قيمة مجتمعية تخلت عنها كانت انتقاما من نظرة جعلتها تشعر أنها ناقصة، حتى لباسها لم يعد يعكس ذوقا، بل رفضا، كأنها تقول: أنا لا أنتمي لهذا القفص، كرهت الأنثى فيها، لأنها ضعيفة، بل لأنهم علموها أن الأنوثة ضعف.
في تمردها كانت تبحث عن ذاتها، عن صوتها، عن حرية لا تقاس بطول التنورة أو نعومة الكلام، غيرت كل ما يرمز للأنثى فيها، فأعادت تشكيل نفسها من الصفر.
أعجب راجع بها، ليس لجمالها، بل لأن شكلها وملامحها صوتها حركاتها توحي بأنها كانت تشبهه في أفكاره … تقرب منها، ليكتشف سرها، ويكتشف نفسه من خلالها، ويعيش معها قلقه. وبدأت بينهما علاقة معقدة، لم تكن علاقة فكرية، بل عاطفية، مشوبة بالضعف.
راجع وجد فيها ذلك الحب الذي افتقده في بيته، وليلى وجدت فيه نفس الحب الذي لم تعرفه يوما داخل أسرتها. في علم النفس، يعتبر الحب الأسري حجر الأساس لتكوين شخصية الطفل واستقراره العاطفي، فإذا نشأ في بيئة تفتقر إلى الحنان والاحتواء، يبدأ لا شعوريا في البحث عن هذا النقص خارج جدران بيته. قد يتعلق بأشخاص غرباء، أو ينخرط في علاقات غير متوازنة، فقط ليشعر أنه مرغوب ومحبوب، فغياب الحب في الطفولة لا يترك فراغا فحسب، بل يخلق جوعا عاطفيا يدفع الطفل، حين يكبر إلى تعويضه بأي شكل، حتى ولو كان ذلك على حساب نفسه وثوابت وقيم مجتمعه.
ظن راجع أن هاوية هي ما كان يبحث عنها لتخرجه مما كان ينغص عليه حياته من تضارب الأفكار، لكنه لم يكن يعلم بأنها لم تكن فقط فتاة تائهة، بل كانت نشطة في دوائر التمرد الجامعي. استدرجته للمشاركة في أنشطة كانت تصنف تحررية: كالإفطار العلني في رمضان، تحت شعار: “الحرية الفردية”، المشاركة في وقفات احتجاجية أمام البرلمان تطالب بـالحق في القبلات في الأماكن العامة، حضور حلقات نقاشات حول تفكيك السلطة الدينية، وتحرير الجسد من القيود الأخلاقية، والحق في الإجهاض تحت شعار: “جسدي حريتي..”..
في البداية، كان راجع يشارك بدافع الفضول، ثم بدافع الانجذاب لها، لكنه كان يشعر بشيء داخله يتألم، كلما رفع لافتة، شعر أن قلبه ينخفض، كلما صرخ بشعار، سمع في داخله صوتا يهمس: هل هذه هي الحرية؟ أم هي مجرد هروب من الصراعات النفسية التي يعيشها هؤلاء؟
وذات مساء، قالت له بصوت خافت: كنت طفلة، بريئة، ولم يحمني أحد… لا أبي، ولا المجتمع، ولا حتى الله، تعرضت لشيء لا يقال، شيء قتل طفولتي، وبعثر هويتي، وحولني تائهة أبحث عن ذاتي.. تساءلت يومها أيترك الانسان تحت رحمة الوحوش البشرية تنهش كرامته، وتدوس على إنسانيته، أنترك هكذا دون حماية؟
لم تسهب، لكنه فهم، فهم أن وراء سخريتها وتمردها جرحا عميقا، وأن تمردها ليس فلسفة، بل صرخة من قلب موجوع.
ابتعد عنها، كتب لها رسالة أخيرة: كنت أظن أنني أستطيع إنقاذك، لكنني وجدت نفسي أني في طريق الضياع، وإذا بالكاد سأنقذ نفسي. إن أردت أن نلتقي يوما، فليكن في طريق النور.
مرت الشهور. بدأ راجع يستعيد نفسه، ويراجع أفكاره، لكن لم يصل بعد إلى الإيمان. كان في مرحلة صمت، لا صلاة، لا يقين، فقط ابتعاد عن الضياع، وأمل في الوصول إلى طريق الأمان.
حتى جاءه الخبر كالصاعقة: ليلى انتحرت. لم تكن هناك رسالة واضحة، فقط دفتر صغير على طاولة مكتبها، فيه كلمات مبعثرة: كل شيء فارغ، لا أحد يسمعني، لا أحد يفهمني. بحثت عن السعادة في الحرية، وفي تلبية رغباتي، لكنني لم أكن أعرف ما الذي أريده حقا. الحرية كذبة، وأنا كنت أصدقها، وإن كان الله موجودا، لماذا تركني وحدي حين كنت أحتاجه؟ أعيش الضياع، أبحث عن نفسي، تألمت منذ طفولتي ، حينما اعتدى على وحش بشري ، أخذ مني أعز ما تملك كل أنثى.. وداعا، فلعلي أجد الخلاص في الموت؟ لا أدري.
جلس راجع على الرصيف أمام شقتها، كما جلس يوما أمام المسجد، لكن هذه المرة، لم يبك فقط، بل ارتجف، شعر أن كل اختياراته القديمة كانت تقوده إلى نفس المصير، وأنه نجا فقط لأنه توقف في منتصف الطريق.
وتساءل لماذا تكون نهاية غالبية المتمردين على الدين انتحار؟.
هاوية لم تكن وحدها، كثيرون مثلها، في العالم ظنوا أن التمرد على الدين هو طريق الحرية، فوجدوا أنفسهم في فراغ لا يحتمل حين ينتزع الإيمان من القلب، لا يبقى سوى صدى الأسئلة، والليل الطويل، والبحث عن معنى لا يعثر عليه في الشهوات أو الأفكار المجردة.
الانتحار ليست لحظة ضعف، بل نتيجة طريق طويل من التيه، من الألم، من فقدان البوصلة، وكثير من الملحدين حين يصلون إلى نهاية الطريق لا يجدون ما يمنعهم من السقوط.. لأنهم فقدوا ذلك الحبل الذي كان يمكن أن ينقذهم.. إنه الإيمان.
في تلك الليلة، عاد راجع إلى بيته، توضأ، ووقف يصلي لأول مرة منذ سنوات، لم تكن صلاة كاملة، لكنه بكى فيها كما لم يبكِ من قبل. قال في سجوده: ” يا رب، سامحني… لقد كدت أكون هاوية.”
تيقنت ربي أن الدين يحررنا من كل أنواع العبودية. الحرية ليست أن تفعل ما تشاء، بل أن تعرف ما ينبغي أن تفعل، ليست أن تكسر القيود، بل أن تختار القيود التي تحميك من السقوط.
كثيرون يظنون أن الدين يقيدهم، لأنه يقول: “لا”، بينما الشهوة تقول: “نعم”. لكنهم لا يدركون أن تلك “اللا” هي جدار حماية، وأن “الشهوات” التي يلهثون خلفها قد تكون بابا إلى الهاوية.
الحرية الزائفة تغريك بأنك سيد نفسك، لكنها تتركك عبدا لنزواتك، لرغبات الآخرين، لصوت المجتمع الذي تظن أنه يصفق لك حين تتمرد، لكنك في الحقيقة تكون وحيدا حين تسقط.
أما الحرية الحقيقية، فهي أن تكون قادرا على قول “لا” حين يصرخ فيك الجسد، وأن تقول “نعم” حين يدعوك الضمير.
الدين لم يأت ليكسر الإنسان، بل ليحميه من كسره الداخلي، جاء ليضع له خارطة طريق وسط الفوضى، ليمنحه معنى حين تضيع المعاني، وليقول له: أنت لست وحدك… هناك من يسمعك، من يراك، من يحبك حتى حين تكره نفسك. الدين بوصلة موصلة إلى بر الأمان.
راجع أدرك ذلك متأخرا، حين رأى هاوية تسقط، أدرك أن الحرية التي كانت ترفعها في اللافتات، لم تكن سوى صرخة ألم، وأن الدين الذي هرب منه، كان هو اليد التي كان يحتاجها ليخرج من الظلام.
بعد سقوط هاوية، عاد راجع ليزرع النور في أرض التمرد. لم يكن سجوده مجرد لحظة بكاء، بل بداية طريق جديد، قرر أن لا تكون قصة ليلى مجرد ذكرى حزينة، بل شرارة تغيير. بدأ بمبادرات بسيطة، لكنها صادقة: أسس مجموعة شبابية داخل الجامعة، سماها “نور في الظلام”، هدفها احتضان المترددين، المحبطين، والمبهورين بالتمرد، نظم حلقات حوارية بعنوان “هل الحرية تعني السقوط؟، يناقش فيها الفرق بين الحرية الحقيقية والحرية الزائفة، ويستضيف فيها شبابا عادوا من حافة الإلحاد، تطوع في مركز دعم نفسي، يساعد فيه ضحايا الاعتداءات، ويقدم لهم الأمان الذي افتقدته هاوية. كما أنشأ صفحة على فيسبوك وإنستغرام بعنوان “أنا كنت هاوية”، يشارك فيها قصته، ويدعو الآخرين لمشاركة تجاربهم مع الضياع والعودة، ويكتب فيها:
“لكل من ظن أن الإيمان قيد، ولكل من ظن أن الحرية تعني أن نكسر أنفسنا… أنا كنت هاوية، لكنني عدت.”
لم يكن واعظا، بل أخا. لم يكن يصرخ في وجوههم، بل يصغي لهم، و يقول دائما: أنا لا أملك الحقيقة، لكنني وجدت طريقا فيه نور… ومن يريد، فأنا هنا لأرافقه.”
وبينما كان البعض يرفعون شعارات التمرد، كان راجع يرفع قلبه، ويقول: التمرد لا يصنع الإنسان… الإيمان هو من يعيده إلى نفسه.
وزين بروفايل صفحته الفايسبوكية بعبارة: راجع نجا.. لأنه توقف.. ليس لأنه ضل الطريق، بل لأنه بكى، لأنه عاد إلى الله، حين أدرك أن البحر الذي أبحر فيه لم يكن حرية، بل غرقا بطيئا… أما هاوية فقد ابتعدت كثيرا، حتى لم يعد أحد يسمع صراخها الأخير. سقطت، لا لأنها ضعيفة، بل لأننا تأخرنا في مد يد النجاة لها . وهنا على هذه الصفحة ، نحكي قصتها، نكتب لمن يشبهنا، لمن لا يزال يظن أم التمرد خلاص، أني كنت هاوية… لكنني عدت ، صفحة للذين تألموا، للذين عادوا، ولمن لا يزال يبحث عن النور.
أنا راجع لم أكن ملحدا لأنني قرأت كتبا فلسفية، ولا كانت هاوية تائهة لأنها تكره الدين، كلانا كان يحمل جراحا لا ترى، أنا نشأت في بيت يفقد الحب، فظننت أن الله غائب كما غاب الحنان، فربطت الإيمان بالقسوة، لا بالرحمة، وهاوية عاشت تجارب سيئة مع وحوش بشرية. الإلحاد في كثير من الأحيان ليس موقفا فكريا باردا، بل صرخة نفسية تقول: أنا موجوع، ولا أحد يسمعني. والتمرد على الدين ليس دائما رفضا لله، بل رفضا لصورة مشوهة لله يعرضها بشر قساة من خلال سلوكاتهم، أو ظروف مؤلمة، أو تدين منحرف. راجع نجا لأنه وجد لحظة صدق ، لحظة مواجهة مع نفسه ، لحظة بكاء في سجدة خجولة، أما هاوية فلم تجد تلك اللحظة فسقطت. وهنا تكمن العبرة، أن نرحم من يبتعد، ان نمد له يدا، لا أن نرفع أصبعا، أن نفهم أن الإيمان لا يفرض بل يزرع بالرحمة، ويرى بالصدق.