الوجه الآخر لأوروبا الحديثة : مجتمع متألق تحت وطأة هشاشة خفية – ألمانيا، رمز التناقضات ـ

18 يونيو 2025
Oplus_131072

بقلم: أحمد العبودي

حين تطأ قدم زائر أرض ألمانيا، لا يسعه إلا أن يندهش أمام ملامح الحداثة الغربية وانضباطها الصارم: حدائق ذات بهجة، طرق مرصوفة بدقة، قطارات لا تتأخر عن موعدها، نظام صحي فعال، اقتصاد يلهث العالم وراءه بحثًا عن شراكات وفرص. غير أن هذه الواجهة اللامعة والجاذبية الضاغطة تخفي وراءها وجهاً آخر، عبوس يتهدده اليأس ، أكثر هشاشة إنسانيًا وعاطفيا.
هذه خواطر قصيرة تفتح نوافذ التأمل في التناقضات العميقة التي تسكن مجتمعا وصف الشاعر إليوت/ T. S. Eliot, نفسية رجاله بدقة في قصيدته” الرجال الجوف” حيث اليأس والقنوط والفراغ الروحي، بنفس العمق والحسرة عبر إليوت أيضا عن معاناة المجتمعات الأوروبية الكئيبة في قصيدته “الآرض الخراب” فيها يصور حالة الإحباط التي يعيشها جيل ما بعد الحرب، ويرسم صورة عالم لا يحفل إلا بالضياع والتشاؤم والشك المريب.
ملامح من مجتمع يجمع بين القوة والضعف في آن:
• العلاقات الاجتماعية…في مهب الفردانية:
في بلدٍ يُحتفى فيه بالحرية الشخصية والاستقلالية، تزداد العلاقات الاجتماعية ذبولا كما تذبل أوراق الخريف على أرصفة دوزلدورف أو كولون. فالأسرة النووية تتآكل، ومؤسسة الزواج تفقد بريقها وتتراجع أدوارها التقليدية. العيش المنفرد لم يعد مجرد خيار، بل أضحى نمطًا سائدًا. الوحدة كمفهوم نفسي لم تعد ثقيلة ولا قاتلة، لقد باتت لا تزعج الكثير من الألمان، ففراغاتهم تُملأ بالعمل، وبشاشات الهواتف، أو برفقة كلب أو اثنين.
• الكلاب في ألمانيا… أكثر من مجرد حيوان:
لا يمكن أن تخطئ عين الزائر كثافة عدد الكلاب في الشوارع والمقاهي والقطارات. لكنها ليست مجرد هواية أو حب للحيوانات، بل تعبير حاد عن عزلة إنسانية مؤلمة. الكلب هنا ليس حيوانًا مدللاً فقط، بل “شريك حياة” بديل عن آدمي آخر، هذا الحيوان الأليف مطلوب ومحبوب يذكر بمقولة: كلما ازدادت معرفتي بالبشر ازداد حبي لكلبي . فمع تضخم الشعور بالفردانية وتراجع حجم الأسرة وانكماشها وغياب الدفء الاجتماعي، أضحت الكلاب ملاذًا عاطفيًا يُغني، مؤقتًا، عن البشر، لأن الكلب يستمع ويصغي ويتفاعل ويستجيب ولا يغدر…
• سيارات الإسعاف… صرخات الوحدة:
صفارات الإسعاف تدوي كل حين ، تكاد لا تتوقف. ليست مجرد مؤشر على تطور المنظومة الصحية، بل إن ذلك مرآة تعكس صورة مجتمع يتقدّم في كل شيء، إلا في الحميمية والعاطفية. كثير من المسنين يعيشون وحدهم في عزلة عن الأبناء والأقارب والجيران، لقد تحوّل الإسعاف الحكومي إلى نوعٍ من “العائلة الطارئة” التي تصل فورا حين لا يكون هناك من يقرع الباب ، او يهاتف على الأقل.
• الدين… من قداسة الكنيسة إلى حيادية الفرد:
تُعرف ألمانيا بجذورها المسيحية، لكن الحضور الديني في الحياة اليومية بات خافتا لا تكاد تسمع له ركزا. الكثير من الكنائس العملاقة أصبحت مجرد تراث معماري هائل، تُستخدم كقاعات حفلات أو معارض…فالإيمان والتدين أصبح شأنًا فرديًا، وبينما يتراجع عدد الممارسين للشعائر بين الألمانيين يبقى الدين حيًا متوهجا عند المهاجرين، خاصة المسلمين، مما يخلق فجوة ثقافية وأحيانًا توترا مكتومًا.
• الكنائس الفاخرة… مجدُ تراثٍ في زمن العلمنة:
تتجول في شوارع مدن ألمانيا، فتُبهر بعظمة الكاتدرائيات التي تخترق السماء. لكنها اليوم خاوية من “المصلين”، عامرة جدا بالسياح. كنائس تُنفق عليها الدولة عشرات الملايين، بينما روحها تتآكل تحت ضغط المادية الرهيبة والعقلانية الساحقة . مفارقة مؤلمة: مبانٍ تفيض بالقداسة، وأرواح ظمأى تفتقر إلى الإيمان الروحي.
• الطرقات…انضباط صارم دون قلب سليم:
شبكة السير في ألمانيا تُدرّس في أشهر كليات الهندسة، لكن صرامتها تخنق أحيانًا الفئات الضعيفة أو الوافدة، في الطريق السيار سرعة لا تحدها علامات، لا تجاوزات معيبة ، لا مجاملات… الجميع سواسية أمام القانون، لكن القانون لا يُراعي السياق الإنساني دائمًا، عليك أن تسرع لعلك تصل فإن تأخرت فلا عزاء لك ولا مواساة.
• الأسواق والاستهلاك… شراهة بلا رادع ولا وازع :
تغريك واجهات المتاجر، وتلاحقك الإعلانات، وتُقنعك أن السعادة تُباع هنا . لكن في مدن مثل مونشنغلادباخ، ترتفع معدلات السمنة والإدمان على المخدرات إلى مستويات صادمة، إلى درجة باتت معها السلطات تفكر جديًا في ” تنظيم” استهلاك المخدرات وتقنينه بدل القضاء عليه أو ترك المجال مفتوحا لمخاطر التهريب القاتل، وذلك في محاولة للسيطرة على انفجار اجتماعي محتمل.
• الإدارة الألمانية… كفاءة بلا دفء:
صحيح أن المؤسسات العامة تعمل بكفاءة مذهلة، لكنك تحتاج إلى شيء من صبر الأنبياء للتعامل مع بيروقراطيتها. ملفات الهجرة والاندماج، مثلًا، تمرّ عبر متاهات قانونية، حيث يُقاس الإنسان بالأرقام، لا بالرغبات والمشاعر. القانون حاضر بقوته وسلطته ، لكن الرحمة غائبة ومرجوة.
• الشيخوخة…خريف ألمانيا الصامت
ليست الشيخوخة في ألمانيا مجرد مرحلة من مراحل العمر، بل هي عبء يثقل حركة الدولة والمجتمع ويحدّ من أنفاسهما المستقبلية. لا يكفي أن يعتاد البلد النظام والدقة، بينما عقارب الزمن تشير إلى واقع ديموغرافي مقلق، حيث يزداد عدد الشيوخ وتتناقص ولادات الغد. شوارع المدن تعج بأصوات العكازات، والمقاعد في الحدائق تعرف أسماء زائريها الملتزمين معها دوما. دور الرعاية تتكاثر كالفطر، والأيدي العاملة الشابة تنكمش كأوراق الخريف. المدارس تفرغ شيئا فشيئا والمصانع تبحث عن شباب قد لا يأتي. في هذا المشهد، تهدد الشيخوخة التوازن الاقتصادي، وتفتح أبواب الأسئلة الكبرى عن كلفة المعاشات، والرعاية، والهوية الوطنية… إنها ليست فقط أزمة أعمار، بل أزمة مستقبل يشيخ قبل أن يولد من جديد.
ـ خلاصة : ألمانيا بلد معقد ومثير. يقف على قمة العالم في الصناعة والانضباط، لكنه مجتمع يلهث ويترنح في متاهات الوحدة والقلق والفراغ. ومن يتأمل جيدًا، سيدرك أن التقدم لا يُقاس فقط بما تصنعه الآلة الصماء، بل بما تحققه الروح المتعطشة للصفاء والطهر.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading