مقتطف من يومياتي كسائق سيارة أجرة في باريس (2006-2017) .

3 يونيو 2025

بقلم : لبيب المسعدي

‎في صندوق معدني أبيض، أتحرك بين عروق باريس، ألمس نبضها البارد بيدين تعرفان طرقا لا تعرفها خرائط “الجي بي إس”. سيارة الأجرة هذه هي مملكتي المتنقلة، ومقصورة اعترافات، ومسرح لوجوه تأتي من كل فجاج الأرض. أنا، ذلك المغربي الذي حمل معه رائحة النعناع ودفء شمس شمال أفريقيا، لأصبح مرآة تعكس ظلال المدينة التي لا تنام.

‎الشتاء هنا قاس نوعا ما، المطر ينسج خيوطا فضية على زجاج السيارة، وأنا أتذكر شمس القصر الكبير التي كانت تذوب كعسل على الجدران. في الأحياء الهادئة حيث تتكئ الأشجار العجوز على بعضها، أسمع همسات الركاب: سيدة عجوز تحكي عن حبيب ضاع في الحرب، شاب طموح يقسم أن يغير العالم، سائحة تائهة تبحث عن “سحر باريس” في دليل سياحي مهترئ. أصغي، وأبتسم، وأحيانا أحوال فتح دردشة في شئ أو من لاشئ. لغتي الفرنسية تحمل نغمات “الدارجة” كوشم خفي، فيسألني الراكب: “من أين أنت؟ ” أقول: “المغرب”، فتتوهج عيون البعض بفضول، ويغمض آخرون أعينهم وكأنهم يرون صورا عن صحراء أو جبال أو أسواق ملونة. البعض يقول: “آه، مراكش! جميلة!” ” أعشق الكسكس” وكفى. قلبي يضيق أحيانًا، كأنني مجرد خلفية لصورة نمطية.

‎في زحمة دوار “النجمة”، حيث تختنق السيارات وتعلو الصفارات، أشعر بالغربة أحيانا. أنا هنا، لكن جذوري تمتد عبر البحر. أتذكر صوت المؤذن ظهر الجمعة، وصخب السويقة، وصمت ليالي شاطئ العرائش حيث النجوم قريبة كحبات الرمل. هنا، النجوم تختبئ خلف أضواء النيون، والروح تضيع في الجري وراء عملة الأورو. أشتاق لقهوة الصباح، للضحكات العالية التي لا تخشى كلمة “زحمة”، للحظات السكون التي لا يملؤها طنين المدينة الدائم.

‎لكن في هذه العزلة المتنقلة، تنبثق أحيانا شموس صغيرة. راكب مسن، عيناه تلمعان بالحكمة، يقول لي: “شكرا يا بني”، بعد أن ساعدته على حمل حقائبه الثقيلة، وكلماته الدافئة تذيب شيئا من صقيع الغربة. أو عائلة مغربية، تسمع لهجتي فتنفجر ضحكاتهم في السيارة، نسأل عن الأهل والبلد، ونتبادل حكايات عن “حريرة رمضان” و”السفنج”. في تلك اللحظات، تصبح السيارة قطعة صغيرة من وطني، تطفو على نهر السين.

‎باريس علمتني الصبر. صبر طوابير الانتظار في المطار، صبر الوجوه المغلقة في ساعات الذروة، صبر البحث عن عنوان غامض في أزقة مونمارتر. تعلمتني أن الإنسانية تتخفى أحيانا خلف قسوة المظهر، وأن الابتسامة بلغة الأم قد تكون جسرًا فوق هوة الصمت. عجلة القيادة في يدي، لكن طريقي ينسجه لقاءات يومية، قصيرة كوميض إشارة مرور، عميقة كندمات تُروى في الظلام.

أقف أحيانا على ضفة النهر، أنظر إلى الماء الذي يمر، كما تمر الأيام والوجوه. أنا هنا، سائق سيارة أجرة مغربي، أحمل باريس في عيني، والمغرب في قلبي. في صندوق السيارة المعدني، تتجاذبني الحكايات، كأنني رواية على عجلات، تروي فصولًا من منفى اختياري، ومن وطن دائم الحضور، في ضوء المصابيح الذهبية لمدينة النور عاصمة الجن والملائكة.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading