
– بقلم : أسامة بنمسعود *
تعيش جماعة القصر الكبير على وقع متابعات قضائية تطال رئيس مجلسها الجماعي، الحاج محمد السيمو -و هو الذي وصف في تجمع جماهيري بان كتافو سخانين بالرباط-، إثر شكايات متعددة تتقاطع فيها أبعاد قانونية، تدبيرية، وسياسية. وتشكل هذه المتابعة لحظة مفصلية في مسار ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي تمحيص أساليب اشتغال الفاعلين المحليين، ومدى احترامهم للمقتضيات الدستورية والقانونية المؤطرة لتدبير الشأن العام المحلي.
يتوخى هذا المقال تقديم قراءة تحليلية في طبيعة الشكايات المقدمة، وتفكيك عناصر الخطاب الدفاعي المروج له، بما في ذلك محاولات التأثير في القضاء وتوظيف منطق “الاستهداف السياسي” و”المظلومية” كآليات للالتفاف على منطق المساءلة القانونية.
أولاً: تعدد الجهات المشتكية كضمانة ديمقراطية ومؤشر على حيوية الرقابة المجتمعية
خلافًا لما يُروَّج في بعض الخطابات التبريرية التي تحصر الشكاية في جهة واحدة ذات طابع حزبي، فإن المعطيات الأولية تفيد بأن المتابعة القضائية الحالية لرئيس جماعة القصر الكبير جاءت نتيجة تراكم شكايات متعددة، صادرة عن:
-جمعيات محلية تُعنى بالشفافية وحماية المال العام.
-بعض أعضاء المجلس الجماعي المنتمين للمعارضة.
-مواطنين متضررين من تدبير بعض الملفات العقارية والإدارية.
-تقارير تفتيش صادرة عن المفتشية العامة للإدارة الترابية.
هذا التعدد لا يعكس فقط تعدد الزوايا الرقابية، بل قد يُعد في حد ذاته تعبيرًا عن دينامية مجتمعية تؤمن بآليات التبليغ والمساءلة الدستورية، وفق ما تنص عليه المادة 6 من الدستور المغربي لسنة 2011 التي تكرس مبدأ المساواة أمام القانون، والمادة 36 التي تنص على محاربة كافة أشكال الفساد.
إن تعدد الشكايات وتنوع مصادرها يعزز من مشروعية المساءلة، ويحد من محاولات اختزالها في نزاع حزبي أو خصومة شخصية، مما يجعل من الضروري اعتماد مسطرة موضوعية شفافة تسمح للقضاء بالبث وفقًا لمبدأ قرينة البراءة، وفي إطار احترام شروط المحاكمة العادلة.
ثانيًا: طبيعة الشكايات وتكييفها القانوني: تضارب مصالح، خروقات مالية، وشبهات استغلال النفوذ.
الشكايات المقدمة تتنوع من حيث طبيعتها القانونية، ويمكن تصنيفها وفق ثلاثة محاور أساسية:
1. تضارب المصالح:
أبرزها عملية اقتناء بقعة أرضية من طرف الرئيس أو مقربين منه من عضو داخل المجلس الجماعي، وهو ما يمثل إخلالًا واضحًا بالفصل 65 من القانون التنظيمي رقم 113.14 الذي يمنع أي عضو من أعضاء المجلس من عقد مصالح خاصة مع الجماعة التي ينتمي إليها.
2. خروقات في تدبير الصفقات العمومية:
يُشتبه في تلاعبات في طلبات العروض، ومنح امتيازات غير مشروعة لشركات تربطها علاقات مع أعضاء في المجلس، في خرق صريح لمقتضيات مدونة الصفقات العمومية (خاصة الفصلين 24 و146).
3. سوء تدبير الأملاك الجماعية: من خلال اتخاذ قرارات انفرادية في تدبير بعض الممتلكات، وغياب محاضر قانونية تثبت الإذن أو التداول داخل المجلس، ما يشكل خرقًا للمادة 39 من القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات.
هذه الخروقات تُدخل المسؤولية ضمن نطاق القانون الجنائي المغربي، خاصة في شقه المتعلق بالجرائم المالية واستغلال النفوذ (الفصول من 241 إلى 256).
ثالثًا: الخطاب الدفاعي ومحاولات التأثير في القضاء: من المظلومية إلى التلويح بالشرعية الشعبية
في مقابل الشكايات ذات الطابع القانوني، تتبدى معالم خطاب دفاعي يعتمد على مناورات خطابية تهدف إلى تمييع طبيعة المساءلة، ويتأسس على محاور ثلاث:
1. استراتيجية المظلومية السياسية: يتم الترويج لفكرة أن المتابعة ناتجة عن خلفيات سياسية أو صراعات حزبية، وذلك في محاولة للانزياح من منطق المسؤولية الفردية نحو منطق المؤامرة. لكن من منظور قانوني، تبقى هذه المزاعم غير مؤسسة ما لم تدعم بأدلة قاطعة تثبت سوء نية الجهات المشتكية أو خرقًا جوهريًا لحقوق الدفاع.
2. اللجوء إلى وسائل الإعلام كآلية للضغط الرمزي: يتم التركيز على التصريحات العاطفية والمداخلات الإعلامية التي تسعى إلى استدرار الدعم الشعبي والتأثير في مسار القضاء. وهنا يُطرح إشكال جوهري حول مدى احترام مبدأ الفصل بين السلط، واستقلال القضاء بموجب الفصل 107 من الدستور.
3. الاحتماء بالشرعية الانتخابية: يلوّح الخطاب الدفاعي بـ”التمثيلية الشعبية” والنتائج الانتخابية كوسيلة لنفي الشبهات، في حين أن الشرعية الانتخابية لا تعفي من الرقابة القضائية، ولا تمثل غطاءً قانونيًا لأي ممارسة قد تشكل خرقًا للقانون أو استغلالًا للنفوذ.
ويُلاحظ أن هذا الخطاب لا يتجه نحو تفنيد الحجج القانونية أو دحض المعطيات الرقابية، بل يعتمد على أسلوب الإيحاء والتلميح دون تقديم أدلة مضادة، مما يُظهر نزعة للهروب من منطق القانون نحو منطق الانطباع والمشاعر.
وعموما تشكل حالة متابعة رئيس جماعة القصر الكبير لحظة اختبار حقيقية لمصداقية القضاء المغربي في ملاحقة الجرائم المرتبطة بالفساد المحلي، كما تضع على المحك دور المجتمع المدني والمؤسسات الرقابية في صون المال العام.
ومن زاوية تحليلية، تندرج هذه المتابعة ضمن سلسلة من التحولات المؤسساتية التي تؤكد على مركزية مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما تؤشر على تطور في مناخ ممارسة السلطة على المستوى المحلي. فالوظيفة التمثيلية لم تعد كافية لوحدها لتبرير الشرعية السياسية، بل بات الأداء اليومي ومدى احترام القانون هو المعيار الأساسي لقياس نزاهة المنتخبين وفعاليتهم.
إن النسق القانوني المغربي، مدعومًا بتطور الوعي المجتمعي ومهنية السلطة القضائية، بات يشكّل تدريجيًا بيئة غير متساهلة مع مظاهر استغلال المنصب العمومي لأغراض شخصية. وتكمن أهمية هذه المتابعة في كونها تسائل التوازن بين القانون والسياسة، بين الشرعية والمشروعية، كما تدعو إلى تطوير آليات الرقابة المجتمعية والقانونية على تدبير الشأن العام.
وعليه، فإن ما نشهده اليوم لا يمثل مجرد حدث عرضي، بل يشكل مظهرًا من مظاهر التحول المؤسساتي التدريجي الذي يطال النخب السياسية المحلية، خاصة تلك التي استبقت تفعيل آليات الرقابة، واستفادت من هشاشة المنظومة السابقة، لتراكم مكاسب شخصية على حساب الصالح العام.
وينبغي التأكيد على أن اللجوء إلى القضاء لا يجب أن يُفهم كوسيلة للانتقام السياسي، بل كآلية دستورية لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أن تسييس المتابعات أو اختزالها في منطق الخصومة الانتخابية يُعد تقويضًا للمؤسسات، ويجب مواجهته بخطاب قانوني رصين ومستند إلى وقائع وقرائن مثبتة.
المراجع:
1. القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات الترابية، الجريدة الرسمية عدد 6380.
2. مدونة الصفقات العمومية رقم 2.06.388 الصادرة في 5 فبراير 2007.
3. الدستور المغربي لسنة 2011.
4. القانون الجنائي المغربي، الفصول من 241 إلى 256.
5. تقارير المجلس الأعلى للحسابات.
6. تصريحات رسمية منشورة في الصحافة الوطنية.
* باحث في القانون العام