إعادة النظر في خاصية القانون الإداري: هل هو حقًا قانون قضائي؟

4 يونيو 2025

بقلم : إلياس طلحة (باحث في العلوم الإدارية والسياسية.)

لطالما شغل موقعُ القانون الإداري مكانةً خاصّة ضمن فروع القانون العام، بالنظر إلى طبيعته المركّبة ووظيفته في تنظيم علاقة الإدارة بالمواطنين، غير أن الجدل لا يزال قائمًا حول سؤال محوري: ما هي طبيعة هذا القانون؟ وهل يمكن وصفه فعلًا بأنه “قانون قضائي” كما دأب بعض الفقه، لاسيما المتأثر بالتقليد الفرنسي، على اعتباره؟
ففي الأدبيات القانونية، كثيرًا ما يتردّد وصف القانون الإداري بأنه “من صُنع القضاء”، وهي عبارة توحي بأن القاضي الإداري، لا المشرّع، هو من قام بتأسيس هذا الفرع، عبر اجتهاداته المتراكمة منذ القرن التاسع عشر، خصوصًا في التجربة الفرنسية الرائدة مع مجلس الدولة ومحكمة التنازع، هذه الفكرة انتقلت إلى العديد من الدول ذات المنظومات القانونية المتأثرة بالنموذج الفرنسي، ومن بينها البلدان العربية.
لكن هذا التوصيف، وإن كان شائعًا، لم يسلم من الانتقاد، فقد اعتبر الأستاذ الدكتور المكي السراجي أن القول بأن القانون الإداري هو “نتاج قضائي” فيه قدر من التبسيط المخلّ، بل الاختزال المضلِّل، الذي يُفرغ القانون الإداري من أبعاده المؤسسية والتشريعية والدستورية.
ومن هنا، يثور تساؤل جوهري:
إلى أي حد يمكن تبرير وصف القانون الإداري بأنه “قانون قضائي”؟ وهل يعكس هذا الوصف طبيعته البنيوية والتاريخية بدقة؟ أم أنه مجرّد قراءة فقهيّة مشوبة بالتأثيرات السياقية والتاريخية؟
هذا ما سنحاول استجلاءه من خلال تحليل السياق التاريخي لتشكّل القانون الإداري، واستعراض مختلف مصادره، ثم تقويم مدى دقة هذا التصنيف، وما إذا كان يعكس طبيعة هذا القانون أو يُضلّل فهمه ويُعيق تطوّره في البيئات القانونية المختلفة.

أولاً: في خلفية هذا الرأي
غالبًا ما يُربط تطور القانون الإداري بنشأة مجلس الدولة الفرنسي (Conseil d’État) ومحكمة التنازع، حيث برزت الحاجة إلى جهاز قضائي يفصل في النزاعات الإدارية بعيدًا عن القضاء العادي، الذي كان يُنظر إليه تاريخيًا بعدم الكفاءة لفهم خصوصية العلاقات الإدارية، وقد كان لهذا الجهاز دور كبير في:
– إرساء مفاهيم قانونية جديدة، مثل: المرفق العام، القرار الإداري، العقد الإداري…
– تطوير نظريات قانونية خاصة تميز القانون الإداري عن غيره، كـ: نظرية السلطة العامة، نظرية امتيازات الإدارة…
ومن هنا جاء وصف القانون الإداري بأنه “من صُنع القضاء”، أو أنه “قانون قضائي بامتياز”، وهي فكرة تردّدت في عدد من الكتابات الفقهية، خصوصًا في العالم العربي الذي تأثر بالقانون الفرنسي في بنيته الإدارية والتنظيمية.
ثانيًا: حدود الوصف القضائي للقانون الإداري
يؤكد الدكتور السراجي أن هذا الوصف يجب أن يُخضع لنقد علمي صارم، لأنّه يغفل عن عدة حقائق أساسية، منها:
1- أن القانون الإداري سبق القضاء الإداري
ظهرت حاجة الإدارة لتنظيم نفسها وعلاقتها بالأفراد قبل تأسيس مجلس الدولة سنة 1799، وقبل محكمة التنازع سنة 1872، كانت هناك قواعد قانونية تُنظم المرافق العامة وتُحدد اختصاصات الموظفين العموميين وتُقنن العلاقة بين السلطة والمواطنين، حتى وإن كانت غير مدونة بشكل ممنهج.
وهذا ما يعني أن القضاء الإداري لم يُنشئ القانون الإداري، وإنما ساهم في تفسيره وتطويره فقط، وهي وظيفة موجودة أيضًا في القضاء المدني، ومع ذلك لا نصف القانون المدني بأنه “قانون قضائي”.
2- القضاء ليس المصدر الوحيد للقانون الإداري
يُشتق القانون الإداري من عدة مصادر، تُكسبه طبيعة مركبة:
– الدستور: كمصدر أسمى، يقر المبادئ الأساسية لمشروعية الإدارة، والفصل بين السلط، واستقلال القضاء الإداري (في بعض الأنظمة)
– التشريع: ويشمل القوانين المتعلقة بالمرافق العامة، الوظيفة العمومية، الصفقات العمومية، نزع الملكية، التعمير…
– التنظيم: يشمل المراسيم، والقرارات الوزارية، والمناشير الإدارية، وغيرها من النصوص التطبيقية.
– السوابق القضائية: وهي عنصر مفسر ومُكمّل، لا منشئ بذاته.
3- تعدد وتشتت قواعد القانون الإداري
من الخصائص الفريدة لهذا الفرع، أنه غير مدوّن في قانون واحد، بخلاف القانون المدني أو الجنائي، هذا التشتت بين مصادر دستورية وتشريعية وتنظيمية، وفي بعض الأحيان تعليمات داخلية إدارية، جعل من الاجتهاد القضائي وسيلة لفهم هذه القواعد وتوضيحها، لكنه لا يُعطي القضاء صفة الإنشاء أو الأصالة.
ثالثًا: التأثيرات السلبية لوصف القانون الإداري بـ”القضائي”
إن الاستمرار في توصيف القانون الإداري بأنه “قضائي” قد يؤدي إلى:
– تضخيم دور القضاء الإداري وإضعاف الاعتراف بالمشرع أو المشرّع الفرعي كمصدر أصلي.
– الإيهام بأن القانون الإداري لا وجود له دون قضاء إداري، ما قد يُربك فهم الطلبة والممارسين عند غياب قضاء إداري مستقل في بعض الدول.
– إضعاف البعد الدستوري للقانون الإداري، مع أن الكثير من قواعده اليوم مستمدة من المبادئ الدستورية، كالمساواة والمشروعية وحقوق الدفاع
خاتمة
يُعدّ القانون الإداري فرعًا قانونيًا مستقلًا له مصادره وأدواته وقواعده، ولم يُولد من رحم القضاء الإداري كما يتوهم البعض، بل إن القضاء ساهم في بلورته وتطوير مفاهيمه، خصوصًا في غياب تدوين شامل للقانون الإداري، لكنه لم يُنشئه ولم يُبدعه من الصفر.
وعليه، فإن اعتبار القانون الإداري “قانونًا قضائيًا” فيه اختزال غير علمي لطبيعته، ويجب على الفقه الحديث أن يُعيد النظر في هذا التصنيف بما يعكس التعدد البنيوي والوظيفي لهذا القانون.
المراجع المعتمدة:
1- المكي السراجي، القانون الإداري والمؤسسات العامة، دار النشر المعرفة، الرباط، الطبعة الأولى، 2015.
2- محمد بن الطيب، النظرية العامة للقانون الإداري المغربي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2016.
3- عبد الغني بسيوني عبد الله، النظرية العامة للقانون الإداري، دار النهضة العربية، القاهرة، 2004.
4- سليمان الطماوي، الوسيط في القانون الإداري، دار الفكر العربي، القاهرة، الجزء الأول، 1996.
5- عبد الرحمن اليوسفي، مبادئ القانون الإداري المغربي، مطبعة الأمنية، الرباط، 2010

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading