
– أعدها : جمال عتو
لإعادة القراءة متعة خاصة وخالصة لا يعرفها إلا الذين عاشوا هذه التجربة مع أعمال أدبية تكون في الغالب كلاسيكية. ذلك أن من بين التعريفات التي وضعها إيتالو كالفينو للأعمال الكلاسيكية هو أنها أعمال يشير اليها أغلب الناس بعبارة “أنا أعيد قراءة”، وليس “أنا أقرأ”. بل إنه في التعريف الثاني لا يبتعد عن جوهر التعريف الأول فيقول: الكتب الكلاسيكية بمنزلة ثروة لمن قرأوها وعشقوها، قيمتها أقل لمن حالفهم الحظ وقرأوها مرة واحدة في أفضل حال يتيح لهم التمتع بها. وفي التعريف الرابع يقول: الكتاب الكلاسيكي هو الذي تكتشف جديدا كلما أعدت قراءته.
وحين يستعرض كالفينو التعريفات المتبقية، وهي أربع عشرة تعريفا، يتقرر في ذهنك أن الكتب الكلاسيكية هي الأعمال التي تظل في حاجة أبدية للكشف والاكتشاف، وأن سحرها لا ينضب مع مرور الزمن، بل إنها تعطي أكلها كل قراءة جديدة ومتجددة.
في كتابها: ” إعادة القراءة .. تحقيق حول الشغف بالأدب” تحكي لورا مورا أستاذة تاريخ الأدب في فلوريدا ولوس انجلوس بعاطفة جياشة تجربتها مع إعادة قراءة الأعمال الأدبية. وبالأخص عن مسرحية شاهدتها في شبابها، وأعادت مشاهدتها بعد ربع قرن من الزمن فتبين لها الفارق الكبير والهوة المتسعة بين المشاهدتين.
وعلى مدار الكتاب تتقصى مورا علاقة القراء على اختلاف طبقاتهم بالأعمال الأدبية، ومن بينها رواية دون كيخوطه، والتي ليست سوى إعادة قراءة لروايات الفروسية، وبالأخص لرواية أماديس دي جاولا. كما أنها هي الأخرى كانت على مدار التاريخ الأدبي ملهمة للكثير من الادياء الذين اعادوا قراءتها وانتاجها في أعمالهم الأدبية. من بينهم شكسبير في كاردينيو (احتمال)، وديدرو في جاك القدري ولورنس ستيرن في “حياة السيد النبيل ترايستران شاندي وآراؤه”، ودوستويفسكي في الأبله، وفلوبير الذي أكد في غير ما مناسبة بأنه كان يقرأ دون كيخوطه باستمرار في مراحل عمرية متباعدة. وهو القائل في رسالة إلى الشاعرة لويز كولي : “أنا بصدد إعادة قراءة دون كيخوطه، أنا منبهر به ، لقد أصابني مرض اسبانيا، ياله من كتاب” وخمس سنوات بعد ذلك سيشبه رواية دون كيخوطه بالهرم الذي يكبر كلما تأملناه .. وظل يتأمل الكتاب حتى خريف العمر عندما كتب إلى الروائية جورج صاند مخبرا اياها بعظمته، ومتسائلا في الوقت نفسه عما هو أجمل منه ..وهو ما اطلقت عليه مورا متلازمة دون كيخوطه.
وطبيعي جدا ان تحمل أعمال فلوبير نفسا دون كيخوطيا كمدام بوفاري التي يعتبرها الكثيرون نسخة دون كيخوطه في المؤنث. ولا يتوقف الأمر عند فلوبير، بل هناك بورخيس الذي كتب قصة “بيار مينار مؤلف دون كيخوطه”، وهي قصة تتناول قضية التطابق الذي يمكن أن يكون في حالة استعادة ظروف إنتاج النص نفسها، وهي فكرة فلسفية هيرومنطيقية عن التاويل الذي من غاياته الاساسية الالتحام بقصدية المؤلف عن طريق العودة إلى السياق التاريخي لإنتاج النص.
لم تكتف لورا مورا بالتحقيق في دون ديخوطه، بل عرجت على بروست، وهو من الأدباء القلائل الذين لهم قراء مخلصون ومخلصون بكسر اللام وفتحه ينتمون إلى نادي بروست الكبير الذي يضم أعضاء في جميع بقاع العالم لا يفترون عن إعادة قراءة ” في البحث عن الزمن المفقود”، وهو مؤلف ضخم من سبعة أجزاء و4300 صفحة، وهو في حاجة دائمة لإعادة القراءة حسب مورا لأسباب كثيرة من بينها ضخامة المؤلف، وطبيعته الأوروبورية، والأوروبور هو الثعبان الذي يعض ذيله، وهو يحيل إلى للفعل الدائري الذي ينتهي من حيث بدأ، وتشعب مواضيعه وعلاقاته التناصية مع نصوص أخرى (مراسلات, هوامش، ملخصات ….)، وقدرة العمل على التغيير وإعادة التشكل عقب كل قراءة جديدة، وهو ما يشهد به كتاب كبار قرأوا العمل كاملا مثل أني إرنو . أو أولئك الذين قرأوه وينجذبون في كل قراءة إلى شيء معين، كالقارئ الذي ركز في قراءته الاولى في شبابه على الأمور النفسية، بينما ركز في القراءة الثانية على الفكاهة والسخرية.
وتكمل موار تحقيقها حول شغف إعادة القراءة مع قارئات وقراء من طبقات مختلفة لتحاور تجاربهم، ومن بينها صاحبة نوبل أني إرنو التي عزت لجوءها إلى إعادة القراءة في الصغر إلى المستوى المادي لوالديها والذي لم يكن يسمح بشراء كتب كثيرة تستجيب لتعطشها الدائم والمستمر للقراءة.
أما عندنا فيطرح عبد الفتاح كيليطو في كتابه “التخلي عن الأدب” أفكارا بخصوص ما يدفعنا إلى إعادة قراءة بعض الأعمال أو التخلي عنها. ويقول بعد تسائله عن إمكانية وجود أسلاف لدون كيخوطه في الأدب العربي: “توجد في الأدب العربي أمثلة عديدة لروايات الفروسية، كنا نقرأها في صغرنا ولسبب ما لا نقرأها في كبرنا”. وهو يقصد السير الشعبية.
تتعدد الأسباب التي تجعلنا نعيد قراءة الأعمال الأدبية فأحيانا تدفعنا النوستالجيا لاستعادة أزمنة الطفولة والشباب، وأحيانا الفضول، وفي أحيان أخرى نريد الاستسلام مرة أخرى لسحر تلك الأعمال، واكتشاف ما تبقى فيها من مناطق الظل والعتمة.