…مقتطف : …” كاتب بالإيجار”

25 يونيو 2023

بقلم : محمد الجباري

…مهنة ” كاتب بالإيجار ” لم تكن بذلك البؤس في الأعوام الأولى بل كانت ممتعة جدا، فأنا أصلا أحب الكتابة ، وَمِمَّا زاد من ولعي وعشقي لها حين صار يقصدني الكثير من أولاد القرية لأكتب لهم رسائل غرامية ، هكذا صرت أعيش حكايات حب مع كل رسالة أكتبها، لم تكن رسائلي تتشابه، فتارة تأتي حزينة وكئيبة بينما أخرى تكون مرحة وسعيدة ، فنفسيتي المتقلبة تنعكس على أوراق رسائلي، كنت أكتب بمشاعري وليس بمشاعر الزبائن ، فأنا في الأصل كاتبا وليس مترجما لمشاعر الآخرين، لكني مع الوقت صرت أستمتع أكثر بالكتابة إلى البنت بيترا.
منذ البداية شعرت أنها تختلف عن كل البنات اللواتي كنت أكتب لهن ، حينما أخرج الولد وليام من جيبه صورة صغيرة لبنت تدعى بيترا وطلب مني أن أكتب لها رسالة ، وكان مستعجلا جدا يريد أن يسلمها رسالته قبل أن تغادر القرية هذا المساء رفقة والدتها إلى الشمال ، فبعد أن توفي والد بيترا في بداية السنة قررت والدتها أخيرا الهجرة إلى بلدة صغيرة على الحدود الألمانية حيث تعيش عائلتها . آه منك أيها المشاغب وليام كيف تمكنت من الوصول إلى هذه الفتاة الفاتنة ؟
لا أدري من أين نزل علي ذلك الشلال من المشاعر وأنا أكتب لها، أخذ وليام فرحا الرسالة وقبل أن ينطلق بها إلى بيترا أدخل يده في جيبه ومنحني قطعة من ربع خلدة، يا له من غبي لم يستوعب أني كنت أعيش بكل جوارحي ومشاعري وأنا أكتب لها رسالة تختلف عن كل رسائلي السابقة، وأنه مجرد ممثل يتقمص دور البطولة لرواية من تأليفي، بعد أيام جاءني من جديد وليام يحمل رسالة بيترا التي بعثتها له من الشمال، كانت رسالتها رائعة ذكرتني برسائل بتهوڤن التي عُثر عليها في منزله بعد وفاته، ومن جديد كتبتُ لها رسالة اقرب إلى قصيدة شعر، أخذ وليام الرسالة وذهب إلى مكتب البريد لكي يرسلها إلى بيترا ، صرت انتظر رسالتها عند نهاية كل أسبوع لأقرأها بمتعة وأرد عليها بقصائد شعر.
من خلال رسائل بيترا العديدة عرفت أنها تعاني كثيرا من زوج والدتها ومعاملته القاسية لها وأنها تفكر جديا بالرحيل إلى أي مكان آخر وتنتظر رسائلي بفارغ الصبر، لم يكن يضايقني في رسائلها إلا شيئ واحد عندما كانت تخاطبني باسم وليام .
أما شعرتِ يا حبيبتي أنني أنا من يراسلك وليس هذا الأبله وليام ؟ ألم تخبرك أحاسيسك بذلك ؟ ألم تقولي في رسالتك الأخيرة أن الحب يصعد بك إلى عنان السماء فتبدو الأرض أبوابها مُشرّعة لك ، فما بالك لم ترني إذن أجلس إلى شمعتي إلى آخر الليل لا أفعل شيئا سوى الكتابة لك .

حدث ما لم أكن أتوقعه بالمرة حين ذهبت أبحث عن وليام في البيت بعد ان انتظرته طوال الأسبوع ولم يأت ، وجدته مستلقيا في الفراش يقاوم داء السل الذي اجتاح أوروبا أواسط الستينيات من القرن الماضي ، كان يبدو هزيلا ولم يعد يربطه بالحياة إلا أنفاس متقطعة ومتعبة ، صرت أبكي بصمت، فالكاتب يموت أيضا بموت أبطاله ، تراني كنت أبكيني إدن !
في تلك الليلة كنت في حالة نفسية سيئة جدا فكتبت رسالة وداع لبيترا، أخبرتها أني أعيش آخر أيامي ، كم هذه الحياة قصيرة جدا حبيبتي حتى أنها لم تمهلنا فرصة اللقاء ثانية .
مرت بعض الأيام ووجدتني متلهفا لعيادة وليام المريض، هذا ما كنت أحاول أن أقنع به نفسي، لكن الحقيقة أني كنت متلهفا أكثر لقراءة جواب بيترا على رسالة الوداع ، خلال الأيام الماضية حاولت أن أتخيل الشكل الذي سيكون عليه رسالتها القادمة ، وهل ستسعفها اللغة لترجمة كل أحاسيس الحزن التي بداخلها؟ أعتقد أن بيترا اقتنعت بعدم جدوى الكتابة، فقواميس اللغة تصير شحيحة أمام غزارة المشاعر، فعوض أن تبعث رسالة ككل مرة آثرت أن تأتي بنفسها !
وجدتها تجلس بجانبه ، كنا نحن الثلاثة في الغرفة ، فبينما كان وليام يعاني من درجة حرارة مرتفعة ولا يعي ما يقع حوله، كانت بيترا تبكي وتشرح له كيف أنها بمجرد أن توصلت بالرسالة لم تتردد في المجيئ ، سمعتها تهمس له وهي تغالب شهيقها : ” كيف ستموت وقد أدمنت رسائلك ؟”
آه يا إلهي لماذا أنا صامت هكذا كالصنم ؟ لماذا لا أخبرها بأني أنا من كان يكتب لها وليس وليام؟ واذا لم تصدقني فلتسأل أهالي القرية، سيخبرونها بأني ” كاتب بالإيجار ” .
يا للسخرية لو علمت بيترا بأني كنت أتقاضى قطعة نقدية عن كل رسالة أكتبها لها ؟ أكيد سوف تحتقرني، تلك المشاعر التي كانت تجعلها تطير في السماء ستكتشف أنها رخيصة جدا لم تكن تساوي إلا ربع خلدة!
وهذا المسكين وليام المستلقي الآن على السرير يحتضر أي ذكرى سيئة عنه ستظل عالقة في ذهنها بعد موته حينما تعلم أنه كان مجرد ببغاء ينطق بكلمات قد لا يستوعبها ولا يفهمها.
بينما بيترا سيصيبها احباط شديد وتعزّ عليها نفسها كونها كانت ضحية لرجلين أحدهما بائع كلمات والآخر ببغاء!
أليس من الأفضل اذن أن ابقى صامتا كالحجر؟

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading