رأي!

15 ديسمبر 2025


بقلم : لبيب المسعدي

في ضل الصمت المدوي بآهات ضحايا طوفان أسفي المنكوبة، حيث اجتاحت السيول بيوتا وأرواحا وغيب الماء والوحل جثث الأبرياء، تعود أسئلة المسؤولية لتطل برأسها من بين الأنقاض، ليس هكذا فحسب، بل في ضوء مقارنة قاسية، مقارنة أزلية تفرض نفسها على سجناء العالم الثالت، مقارنة تظهر الفجوة بين مصيرين: مصير أوروبي حيث يتصدر المواطن قائمة اهتمامات الدولة، تدار الكوارث ضمن منظومة محكمة، وآخر يترك فيه الإنسان لمصيره تحت ما يسمى بغضب الله والإيمان بقضائه وقدره. فبينما تتحرك الآلة المؤسساتية في أوروبا لمواجهة فيضاناتها، حيث تتحمل شركات التأمين خسائر فادحة قد تصل إلى مليارات اليورو في حدث واحد، كما جرى مؤخرًا
‎ في وسط وشرق القارة العجوز، نجد أنفسنا هنا نتساءل عن شبح صندوق التضامن ضد الكوارث الذي غاب أثره، وعن تعويض قد يأتي متأخرا إذ أتى، بينما يدفع المواطن من دمه ودم أقاربه وجيرانه أولًا ثم من جيبه ثانيا. هناك، في دول مثل فرنسا وإسبانيا، تحولت الكارثة إلى نظام؛ فهناك تأمين إلزامي ضد الكوارث الطبيعية تدعمه الدولة منذ عقود، كالنظام الفرنسي المدعوم من صندوق إعادة تأمين حكومي يضمن التعويض، والنظام الإسباني الذي يدفع مليارات اليورو للمتضررين عبر هيئة عامة . إنها أنظمة تقوم على مبدأ التضامن الوطني والاستباقية، بل وتناقش اليوم خطط أوروبية موحدة لتعزيز هذه المرونة وتقاسم المخاطر عبر الحدود . أما في بلدنا الحبيب، حيث يتغنى الضعيف بأغنية (هنا وطن)، عندنا، فالكارثة تفتح نقاشا متكررا عن مسؤولية الدولة في التعويض، وعن صندوق يبدو شبه غائب، وعن حاجة ملحة لإعلان المدينة “منكوبة” فقط لبدء مسطرة تعويض قد تطول . الفرق ليس في هطول الأمطار، فالأمطار لا تميز بين قارة وأخرى، والقضاء والقدر حقيقة حتمية على جميع الخلق، بل في مدى استعداد من يديرونها. الفرق في أن الكارثة هناك، رغم ضخامتها، تدخل في حسابات اقتصادية وقانونية واضحة، بينما تتحول في وطننا إلى مأساة إنسانية خالصة تتبعها مساءلة غائمة ووعود ضبابية. الفرق بين منهجية تقبل بأن الخطر الطبيعي حقيقة واجبة التأطير، وبين ثقافة رد الفعل والترقب. إن أنين أسفي ليس نداءً للمساعدة فحسب، بل هو صرخة في وجه اللامنظومة؛ فحيث لا يوجد تأمين حقيقي، ولا وقاية فعالة، ولا مساءلة سريعة، تكون الخسارة مضاعفة: خسارة الأرواح أولا، وانهيار الثقة في المؤسسات ثانيًا. لقد حان الوقت لأن نتعلم أن التعامل مع غضب الطبيعة لا يكون بالشجاعة الفردية وحدها، بل بشجاعة المؤسسات الحكومية وشركات التامين، ووضوح القوانين وعدالة التوزيع، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading