
بقلم: ذ.محمد الشدادي
في زمن تتكاثر فيه أسباب الرحيل، وتضيق فيه الأوطان بأهلها، وتغلق فيه أبواب الأمل، يركب كثير من الشباب البحر، لا حبا في المغامرة، بل هروبا من واقع يائس، بحثا عن رزق مفقود، أو كرامة مهدورة، أو حلم لا يجد له مكانا في أرضه. يسمونها “هجرة”، لكنها في حقيقتها مقامرة بالحياة. وركوب لقوارب الموت، التي لا تضمن الوصول، ولا تحفظ الكرامة، ولا تصون الروح.
هذا المشهد المؤلم يقلق كل قلب حي، ويشعرنا أن هناك خللا عميقا في العلاقة بين الإنسان ووطنه، بين الشباب ومستقبلهم، بين الواقع والحلم. فالشباب لا يركبون البحر لأنهم لا يحبون أوطانهم، بل لأنهم فقدوا الإحساس بالأمان فيها. يقول أحدهم: “نموت مرة واحدة في البحر، خير من أن نموت كل يوم في الوطن”. وهذا التعبير وحده يكشف أن ما يدفعهم ليس الطموح، بل الهروب من موت يومي: البطالة، الفقر، التهميش، وانعدام الفرص..
لكن حتى من يصل منهم إلى الضفة الأخرى، لا يعد ناجيا بالضرورة، لأن الوصول قد يكون موتا من نوع آخر: موت الهوية، والانتماء، والجذور. فالشاب الذي ينجو من الغرق، يفاجأ بأنه اقتلع من تربته، من لغته، من عاداته، من مجتمعه، من دينه أحيانا. يبدأ في التكيف، لكنه يفقد شيئا فشيئا ملامحه الأصلية، حتى يصبح غريبا عن نفسه، عن أهله، عن وطنه، بل حتى عن حلمه الذي دفعه للرحيل. يعيش في عزلة، في خوف، في صراع داخلي بين ما كان وما صار، بين ما أراد وما وجد. وهذا ما يجعل هجرة الوطن في كثير من الحالات، موتا رمزيا مستمرا، لا يعلن في الصحف، لكنه يكتب في النفوس.
وفي خضم هذا التيه، يغيب عن كثير من الشباب أن الرزق لا يرتبط بالمكان، بل بالحركة والمبادرة والسعي. قال تعالى:
_”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ” ( الملك: 15)
فالرزق موجود، لكنه لا يمنح للساكن، بل يعطى للساعي. في الوطن فرص صغيرة تنتظر من يراها، من يصنعها، من يطورها. قد لا تكون فاخرة، لكنها بداية، ومن أحسن البداية، وصل إلى ما يريد. الهجرة ليست دائما الحل، بل قد تكون هروبا من تحد إلى مجهول أكبر.
النبي ﷺ قال: ” لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا”،
فالطير لا يبقى في العش ينتظر، بل يخرج كل صباح، يبحث، يسعى، ثم يعود وقد رزقه الله. فالرزق ليس في مكان معين، بل في النية، والسعي، والتوكل، والعمل.
في القرآن الكريم، نجد مشهدا عجيبا، حين قال الله تعالى عن بني إسرائيل:
_” وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ…” ( النساء: 66) .
هنا يقرن الله بين قتل النفس والخروج من الوطن، وكأن كلاهما يحمل ألما وجوديا لا يحتمل، إلا لمن بلغ مرتبة عالية من الإيمان والتسليم. فالوطن ليس مجرد أرض، بل هو ذاكرة، وهوية، وأمان، وحنين، والخروج منه يشبه نزع الروح من الجسد.
وفي موضع آخر، يقول الله تعالى:
” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ…”(البقرة: 243).
هؤلاء خرجوا من ديارهم خوفا من الموت، فواجهوا الموت الذي فروا منه، ثم أحياهم الله ليكونوا آية للناس، وليدركوا أن الحذر لا يمنع القدر، وأن النجاة لا تكون بالفرار، بل بالإيمان والثقة بالله، والسعي والتوكل عليه
ومع ذلك، فإن الإسلام لا يحرم الهجرة، بل يشرعها حين تكون في سبيل الله، كما فعل النبي ﷺ حين هاجر من مكة إلى المدينة. لكنه لم يهاجر هروبا من ضيق، بل خرج وهو يحب وطنه حبا عظيما، حتى وقف متوجها نحو مكة وقال: ” والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
كلمات تقطر حنينا، وتظهر أن الهجرة لم تكن رغبة في الرحيل، بل كانت ضرورة دعوية، وامتثالا لأمر الله، رغم ما فيها من ألم الفراق.
لهذا على كل من يفكر في الهجرة نقول: تعلم من نبيك ﷺ كيف تكون الهجرة بنية صادقة، وبخطة واضحة، وبهدف نبيل، لا هروبا من واقع، ولا يأسا من رزق، ولا مقامرة بالروح. فالهجرة النبوية كانت بداية بناء حضارة، لا نهاية حلم، وكانت طريقا إلى التمكين، لا إلى الغرق.
الهجرة ليست حراما، لكن الموت في سبيل وهمٍ ليس من مقاصد الشريعة، ولا من حكمة العقل، ولا من فقه الواقع. حين تركب البحر بلا حماية، بلا خطة، بلا شرعية، فأنت تسلم نفسك للمجهول، وتغامر بروحك من أجل حلم قد لا يتحقق. الهجرة التي تكون لله، هي حياة، أما الهجرة التي تكون خوفا أو يأسا، فهي موت، حتى وإن وصلت.
اليوم يجب أن نعيد تعريف الهجرة في وجدان أبنائنا. يجب أن نعلمهم أن الهجرة قد تكون فرصة للعودة إلى الله، لبناء الذات، لنشر الخير في أرض جديدة، إن اقترنت بالإيمان والعمل. ويجب أن نربي فيهم أن الوطن ليس عدوا للرزق، بل هو أرض تحتاج من يحرثها، من يزرع فيها الأمل، من يعيد اكتشاف إمكانياتها. أن لا يجعلوا الحنين يعطلهم عن البناء، ولا يجعلوا الخوف ينسيهم الثقة بالله، ولا يجعلوا الغربة تطفئ نور الرسالة في قلوبهم.
فيا من تفكر في ركوب قوارب الموت، اسأل نفسك: هل هجرتك لله؟ هل هي بناء أم هروب؟ هل هي حياة أم موت؟ فإن كانت لله، فامضِ، وإن كانت يأسا، فراجع قلبك، وتعلم أن النجاة لا تكون بالفرار، بل بالإيمان، والعمل، والصبر، والتخطيط، والتوكل على الله.