مقتطفات من مذكراتي كسائق طاكسي في باريس .

31 يوليو 2025

بقلم : لبيب المسعدي .

تدخل باريس من نافذة سيارتي القديمة ( پيجو 407) لا كسياحها الذين يحملون الكاميرات والخرائط الملونة، بل كصياد لأحلامهم المبعثرة على أرصفتها. سيارتي كقارب صدئ على نهر السين المتلألئ . أمسك بمقودها كما أمسك أبي بالمفاتيح الخاصة بالصنابير عندما كان يحارب الفقر كمستخدم بالوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بمدينة القصر الكبير، كلانا يحمل مفاتيحا ليقود حمولة من الأماني.

الليل هنا.. ليس ظلاما كالليل عندنا. إنه ضياء أسود! مصابيح الشوارع تنثر ذهبا سائلا على وجوه العابرين. شانزليزيه.. تقول اللافتة، وأنا أقول في سري: “يا سلام”. أمشي ببطء، كأني أخشى أن أطأ بريق المدينة بأحذيتي البالية. الركاب يدخلون ويخرجون.. رائحة عطورهم الفاخرة تختلط برائحة بحموضة نبيد المائدة و عبق قهوتي المغلية في الكوب القديم. أحدهم يتحدث عن سارتر و سيمون دي بوفوار في مقهى لوفلور. وأنا أتذكر جلسات أبي تحت سقيفة سطح منزلنا وقت العصر، في انتظار خروج أمي من مطبخها بعد انتهائها من تحضير البغرير الذي وحسب الأسطورة يكره حضور الذكور وقت تقبه… حكايات تختلط بنسيم الحنين.

“إلى حي كليشي لو سمحت!”.. امرأة شابة، صوتها ناعم كالحرير. أرمقها في المرآة: عيناها زرقاوان كبحر طنجة في صاف من أعلى الحافة. تقول “حي كليشي” وكأنها تقول “حي الألف حكاية”. هناك، بين البقالات المغربية والمقاهي التي تفوح رائحة النعناع والتوابل، أشعر للحظة أنني في منطقة من أرضي الأم جنوبا هناك. أصوات الدارجة والأمازيغية تلامس أذني كندى الصباح.. لكن أجراس نوتردام القريبة تذكرني: أنت هنا، يا لبيب في قلب باريس!

أوقف السيارة قرب جسر “العشاق”. شابان متعانقان يمران.. لا أحد يلتفت. في مدينتي، كانوا سيشيرون بالحجر. لكن باريس هذه.. تبتلع كل شيء في حضنها الواسع: الغريب، المختلف، الحالم، التعبان.
ألمح سيدة عجوزا ترمي بقرميد خبز للحمام عند نهر السين.. حركتها تلك تذكرني بالجارة العجوز وهي تنثر الحب لدجاجها البلدي النحيف في حي الزيتونة قبل اجتياح الإسمنت.

الركاب يتركون وراءهم همساتهم، وضحكاتهم، وأحيانا.. صمتهم الثقيل. عملات معدنية تتراكم في علبتي البلاستيكية: يورو، سنتيم.. أشتري بها خبزا ووقودا وأملا. أرسل الفائض عبر “ويسترن يونيون” إلى أمي، هي التي تظنني أقود “عربة ملك” في مدينة النور! لو تعلم أن نور باريس هذا.. يبرق في العيون، ويحرق القلب أحيانا.

في آخر الليل، حين تهدأ الأرصفة وتنام النوافذ خلف ستائرها الحريرية، أوقف سيارتي فوق تلة “مونمارتر”. أخرج فطيرة محشوة بالشكلاطة. أدخن سيجارة. أسفل قدمي.. باريس تتلوى كتنين من ألماس أسود. أغمض عيني.. فأشم رائحة مسك الليل كربيع قادم من في حي سكرينيا. أفتحهما.. فأرى برج إيفل يثقب الظلام بآلاف الشموع. أيها البرج الشاهق.. أنت أيضا غريب في هذه المدينة، مثلي تماما!

تنفس يا لبيب غدا، ستحمل سيارتك من جديد أحلاما جديدة على طرقات هذه المدينة العتيقة.. التي لا تعرف اسمك، لكن عجلاتك تعرف كل حجر في رصيفها.

المطر يبدأ بالوخز على زجاج السيارة، كأن السماء تنسج خيوط فضة على مرآتي الجانبية. أشغل المساحات، حركتها الإيقاعية تذكرني بصرير حبل دلو البئر . هنا، حتى المطر له نغم آخر.
في إحدى الزوايا الضيقة بشارع “بيلڤيل”، يلوح لي رجل مسن بيد مرتجفة. يحمل حقيبة أطباق متداخلة تنبعث منها رائحة وطني، صوته حين يهمس بالدارجة: “الله يخليك، ولدي.. (باب كليشي)يثقب ضجيج المدينة كإبرة ذهبية. في صمته الذي يلي، أسمع كل الشوق الذي لا يقال.

أمر بمقبرة “بير لاشيز”، حيث يستريح عظام الشعراء والأدباء تحت صخور منحوتة كالقصور. أحد الركاب يقول مبتسما: “هنا يرقد أوسكار وايلد!” وأنا أفكر في مقابرنا البيضاء المتناثرة كقطع نعش شكلت دون قصد. المجال الأخضر الوحيد في مدينتي الأم عبارة عن مقبرة لا تشبه شئ، حيث لا شواهد إلا حجارة بسيطة.. وأسماء اختفت بفعل الزمن، الشواهد عندنا تحفر بالذاكرة لا بالرخام. الغرباء هناك ينامون تحت نجمة واحدة تحملهم جميعا.

في شارع “سان جيرمان” تلقي امرأة باقة زهور ذابلة في صندوق القمامة. حركتها السريعة توقظ فيّ صورة أمي وهي تزرع نعناعا في إبريق مشروخ على حافة المطبخ.. لا شيء يموت عندها دون أن يولد منه جمال جديد. أتمنى لو أستطيع إنقاذ تلك الزهور المهملة، لكن إشارة المرور تتحول للأخضر، والسيارة خلفي تزمجر كوحش جائع. باريس لا تنتظر المشاعر.

عند منتصف الليل، توقفت قرب مقهى “باب سان كلود” المضاء بمصابيح عتيقة. صاحب المقهى، اليهودي المغربي “بيير”، يخرج لي بفنجان قهوة، تعلمنا لغة خاصة بنا وكثير من الضحك. اليوم اخرج من جيبه قطعا نقدية وأعطاني واحدة، ألمع العملة بين أصابعي.. فيها وجه الملك الحسن الثاني، ورائحة وطن لم ألمس ترابه منذ سنة ونصف.

الطرقات الآن خالية إلا من ظلال تتلوى تحت المصابيح البرتقالية. أفتح نافذة السيارة.. هواء بارد يحمل عبق الخبز الطازج من فرن ليلي. في هذا الصمت، تصير باريس غريبة مرة أخرى. كأن المدينة تخلع ثيابها الفاخرة لترتدي صدرها الحقيقي: حجر بارد، ووجع متراكم تحت الجسور، وأسئلة معلقة في الضباب.
أشعل الراديو.. أغنية للعندليب عبد الحليم حافظ تفيض من المذياع:
“قارئة الفنجان.. شفتيها كالرمان”

الآن، وأنا أتجه نحو شقتي، أدرك أنني لست مجرد ظل يجر خلفه سيارة. أنا الجسر الذي يعبر فوقه الحنين كل ليلة. أنا الصوت الذي يهمس لأولئك الضائعين بين الأضواء: “أنتم لستم وحدكم”
سيارتي العتيقة تحمل أكثر من ركاب.. إنها تحمل قصصا تنبض مثل قلبي، وتذكرني:
حتى في مدينة الأنوار.. أعظم المصابيح هي تلك التي تشعلها الذكريات في أعماق الغرباء.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading