
نفحات رمضانية يكتبها : زكرياء الساحلي .
الحلقة الأولى: المحتال الثقافي.
بوجهه الودود وبلسانه العذب، ظل “مراد” يجوب المقاهي الأدبية، باحثا عن ضحاياه من فئة المثقفين والطامعين في أن يصيروا كذلك، لم يكن محتالا عاديا مثل باقي المحتالين؛ بل كان يعرف من أين يُؤكل كتف الثقافة، فتفنن في ذلك.
كان في شبابه نجارا بارعا في النحت على الخشب والزخرفة على الأبواب، وذات يوم زار منزلا فخما ليركب له مكتبة خشبية ضخمة. سأل عن هوية صاحب المنزل، فقيل له إنه أديب معروف يكتب الشعر.
توقف للحظة، تأمل المكتبة الفاخرة، وأدرك -آنذاك- أن القوة ليست في من يصنع الخشب بل في من يكتب فوقه.
حين غادر المنزل في ذلك اليوم، أحسّ أنه شخص آخر، شخص عازم على اقتحام عالم المعرفة، مصرٌّ على الخروج من عالم الخشب والدخول إلى عالم الورق.
بعد محاولات كتابية عدّة، جزم أنه لا يملك موهبة الكتابة، لكنه لم يستسلم مقررا إعادة التجربة من زاوية أخرى معتمدا على فهمه العميق لمجال التسويق، فعالم الثقافة – مثله مثل عالم التجارة – يحتاج فقط إلى “الزعامة” وقليلا من الرأسمال.
رسم خطةً للتسلل الناعم إلى الوسط الثقافي، حيث واظب على المشاركة في جميع الأنشطة الثقافية في المدينة، حجز لنفسه مكانا في الصفوف الأولى قرب المنصة، حتى يظهر بوضوح أمام عدسات الكاميرات، اعتمر بيرية سوداء على رأسه وتأبّط كتب نيتشه، تقمص لغة المثقفين، بل سرق عباراتهم الدوستويفسكية، جمع أكبر قدر ممكن من الشواهد التقديرية التي تمنح بسخاء في اللقاءات الأدبية، ثم التقط صورا تذكارية مع كل الأدباء ذوي القامة الرزينة الذين يزورون المدينة، لكن خطته الأكثر دهاءً كانت تعتمد على الاستثمار في الموتى، فكلما مات منهم أحد، سارع إلى إصدار كتاب جديد بعنوان “أنا والكاتب الفلاني”، يدّعي فيه أنه كان صديقه الحميم، وأنه قبل وفاته باح له بأسرار خاصة، لكن حقيقة كتابه لم تكن سوى مقتطفات مجمعة من مقابلات منشورة للكاتب في مواقع ثقافية، يضيف إليها مقدمة حميمية زائفة، ويضع صورته مع الراحل على الغلاف.
بعد بضع سنين، وبعد أن تمكن من ضبط المشهد الثقافي، انتقل إلى خطته الثانية القاضية بجعل الثقافة مصدرا للثراء والجاه، وتحقيق حلمه ببناء منزل فخم كالذي شاهده عند الأديب صاحب المكتبة، والذي حفّزه على دخول عالم الكتابة.
اخترع مراد دورا جديدا لنفسه “مكتشف المواهب النسائية” كان يدّعي – في كل لقاء أدبي – أنه مهتم بالدراسات النسوية، واستعمل هذه الخطة لإيهام مجموعة من النساء الثريات بأنهن يملكن موهبة مدفونة تحتاج فقط إلى من يخرجها للنور.
صنع مراد دواوين شعرية رديئة، أغلب قصائدها مسروقة من مسابقات أدبية كان ينظمها لفائدة تلاميذ المؤسسات التعليمية، كان يعيد صياغتها قليلا، ويضيف إليها بعض الصور البلاغية، ثم يمنحها عنوانا شاعريا قبل بيعها بمبالغ ضخمة للطامحين والطامحات إلى لقب “شاعر ومثقف وكاتب”.
أوهم ضحاياه أن المصاريف الباهظة تشمل النشر والتوزيع في مختلف المعارض الدولية، لكن الحقيقة أن الشاري يحصل فقط على نسخ قليلة جدا ليتباهى بها على مواقع التواصل الاجتماعي، مع الحرص على عدم نشر أي قصيدة بحجة حماية الملكية الفكرية.
في قرارة نفسه، كان يقول: “سأصنع كتّابًا يخدمونني، يدفعون المال لي، ويدينون لي بكل شيء”.
أنشأ صالون أدبي سماه “صالون شوبنهاور” لم يكن يعرف ما علاقة شوبنهاور بالدراسات النسائية لكنه وجد في الاسم إثارة بالغة.
في أحد الأيام وبينما كان يحاضر في موضوع: “الكتابة النسائية في المغرب.. أية آفاق” سألته شابة من الحضور:
– الأستاذ مراد أنت كرجل لماذا تخصصت في الكتابة النسائية؟
ابتسم مراد بخبث، وأشار بسبابته إلى شخص من بين الحضور وقال:
– واش بغيتيني نكتب على هذا مثلا!
ضحك الجميع، ثم صفقوا له، وحينها أدرك مراد أنه بلغ قمة الاحتيال الثقافي، وأنه تمكن من خلق جوقة من المتملقين أشباه المثقفين الذين يدورون في فلكه.
تعاظم دوره وأصبح اسما بارزا في سماء الأدب، يلقب بـ”راعي المواهب” و”صانع الأدباء الجدد”. صار يحضر الملتقيات كضيف شرف، ويفتتح الأمسيات الشعرية بابتسامته العريضة وكلماته المنمقة، تضخم طموحه حتى راوده الحلم بأن يصبح وزيرا للثقافة أو سفيرا للسلام.
لكن، ذات أمسية أدبية، وبينما كان يلقي خطابا عن “دور المرأة في الإبداع”، وقفت سيدة وسط القاعة، كانت إحدى ضحاياه وهي تحمل في يدها نسخة من ديوانها الشعري، الذي باعه لها قبل سنوات بثمن باهظ مع وعود زائفة بالشهرة وبصوت عالٍ صاحت:
– يا الشفّار! بعتي لي هذا الزبل وقلتي لي غنولي مشهورة! والله العظيم حتى نفضحك وننشر حواراتنا لي كاين فالواتساب!
خيم صمت ثقيل قبل أن تعمّ الهمهمات والصيحات في القاعة، وفي اليوم الموالي، كانت قناة “شوف ودي ماتعاود” تقف أمام الصالون الأدبي شوبنهاور، تنقل وقفة احتجاجية لتنسيقية “الشعراء الذين فُرض عليهم شراء الشعر من مراد”
وهكذا، كما رفعته الأوهام إلى سماء الثقافة، أسقطته الحقيقة على أرض الفضيحة، ليصبح مجرد صفحة مطوية في كتاب النصب الثقافي.
……..
*قصة من وحي الخيال فأي تشابه في الشخصيات أو الأحداث هو من محض الصدفة.