
أعدها : ذ . عبد الغني الشدادي
المقدمة:
تعد النصوص القصيرة المدروسة هنا رحلة فلسفية ونفسية تأخذ القارئ إلى أعماق الوجود والتغيير، وهي تجمع بين الفلسفة النفسية والفكر الوجودي من خلال أسلوب سردي يغلب عليه التجريب والرمزية. تمثل هذه النصوص لحظات تأمل حادة في صراعات الإنسان الداخلية، وفي فهمه للموت والغياب والتغيير والمعنى. كما أنها تتنوع في أسلوبها وطريقة تناولها للمفاهيم، إلا أن هناك رابطًا فلسفيًا ونفسيًا يربط بينها جميعًا، وهو البحث المستمر عن الهوية، الوجود، والحضور في عالم يعج بالغياب والتحولات المستمرة.
تتميز هذه النصوص بتوظيف الرمزية بشكل كبير، وتعرض الأسئلة الوجودية الأساسية في سياقٍ يسائل المعنى والألم، وتحلل صراعات الشخصيات الداخلية مع الذات والعالم المحيط بها. تطرح هذا الورقة النقدية تحليلاً فلسفيًا ونفسيًا إذا صح التعبير لهذه النصوص، مع تسليط الضوء على مضامينها الفكرية والرمزية، بالإضافة إلى تجليات الصراع النفسي الذي تطرحه.
1 – التحول الوجودي:
تعد فكرة التحول والبحث عن المعنى من أبرز المواضيع التي تتناولها هذه النصوص. في نص البخار، يتناول الكاتب فكرة التحول المادي والوجودي، حيث يتحول الراوي تدريجيًا إلى بخار، مبدلًا هويته من شيء ثابت إلى شيء مائع وغير ملموس، وهو ما عبر عنه بالثبات والانسياب كثنائية وجودية عميقة. هذا التحول في الوجود لا يعني فقط التغيير المادي، بل يعكس فلسفة أعمق حول السيولة والتحول المستمر الذي يتميز به الوجود البشري، كما أنه يمثل الوجود الحي الذي يعبر عن القدرة على التكيف والتغير مع مرور الزمن.
في نص الغياب، يظهر مفهوم الغياب كحالة دائمة تتسلل في الوجود، لكنها لا تعني الفقدان التام، بل هي رحلة نحو الحضور. الظل، الذي يمثل الغياب في النص، يبدو في البداية وكأنه حالة انفصال أو فقدان، لكنه في النهاية يصبح تجسيدا لحالة تحمل الألم والنور معا. هذه الفكرة تحمل صدى الفلسفة الوجودية التي ترى أن الوجود نفسه يتمخض عن التغير المستمر وأن الغياب ليس نهاية، بل بداية لفهم أعمق للوجود.
2 – الوجود النفسي والانعكاسات الداخلية:
تتجلى الشخصية في النصوص بشكل مكثف عبر صراعها الداخلي وتساؤلاتها الوجودية. في نص الصمت، يظهر الراوي في حالة غضب وانهيار داخلي، حيث يصرخ في وجه وحيد، الذي أصبح مأسورًا داخل إطار اللوحة. لكن وحيد يبقى مقيدًا في حالة صمت، مما يرمز إلى الجمود الداخلي للشخصية التي لا تستطيع التحرر من قيودها النفسية. العلاقة بين الراوي وشخصية وحيد هي انعكاس للصراع النفسي بين الرغبة والعجز، وبين الحاجة إلى التفاعل مع العالم الخارجي والتأمل في الذات.
أما في نص الظل، فالشخصية تلتقي مع جانبها الخفي في حوار داخلي مع الظل ؛ صراع بين العقل والروح، وبين الرغبات المكبوتة والمشاعر التي يصعب التعبير عنها. فالظل يمثل هنا كل ما هو مكبوت ومجهول في داخلها. كما يظهر في هذا السياق كرمز لـ الذات المظلمة، التي لا يتمكن الإنسان من التصالح معها بسهولة؛ في هذا الصدد نجد في النص: (حينما تذوب في الغياب تجد النور الذي اختبأ خلف الألم) فالكاتب يقدم هنا فكرة فلسفية عن العزلة ليست كمجرد غياب بل كعملية بحث عن النور والحقيقة في عالم يبدو مظلما. فشخصية وحيد لا تقبل الفراغ، بل ترى فيه فرصة لاستكشاف المعنى الخفي وراء الصمت.
3 – الرمزية والعناصر الأدبية:
ما يميز نصوص الدكتور عزيز الهلالي هو إثارة مفاهيم فلسفية مجردة بلبوس أدبي؛ فمن خلال استعماله الأدوات الأدبية مثل الشخصيات والحوار نجده يتمكن من تحويل هذه المفاهيم إلى تجارب شخصية تعرض بصيغة ملموسة. في نص الغياب على سبيل المثال، لا يتحدث عن الغياب كمفهوم مجرد، بل يجسده في علاقة حوارية بين الشخص وظله. هذا يعزز الفكرة الفلسفية، وفي نفس الآن يخلق تجربة تلامس القارئ على الصعيد العاطفي والإنساني.
فنصوصه تستخدم الرمزية بشكل مكثف للتعبير عن المفاهيم الفلسفية والنفسية التي يتم تناولها. ففي نص البخار، البخار نفسه لا يمثل مجرد مادة فيزيائية، أو نتاج تحول مادة فزيائية من حالة فزيائية إلى حالة فزيائية أخرى بل يمكن اعتباره رمزا للتحول والتغيير الذي يعكس سيولة الوجود البشري وقدرته على التكيف مع الظروف المختلفة. كذلك، في نص الظل، يتم استخدام الظل كرمز للجانب المكبوت في النفس البشرية، وهو الجزء الخفي الذي يسعى الشخص إلى إخفائه أو تجاهله.
اللغة المستخدمة في النصوص تتسم بالغموض والتجريد، وهو ما يساعد في خلق جو من التأمل والتساؤل الذي يترك القارئ في حالة من الشك والبحث عن المعنى. استخدام الألفاظ المجازية والتشابيه يعزز هذا الجو الغامض ويساهم في خلق مساحات مفتوحة يمكن للقارئ أن يملأها بتفسيراته الخاصة.
4 – العلاقة بين الفلسفة والنفس:
هذه النصوص تقدم رؤية فلسفية ونفسية متكاملة، حيث تمتزج المفاهيم الفلسفية عن الوجود والتحول مع المفاهيم النفسية عن الصراع الداخلي والانعكاسات الذاتية. النصوص تقدم رؤية واضحة حول كيفية تأثر الإنسان بظروفه الداخلية والخارجية وكيفية التعامل مع تلك الظروف عبر التحول النفسي والجسدي.
ففي نص الغياب مثلا، يتناول الكاتب الغياب كجزء من الوجود، وكأن الغياب يشكل حالة من الوجود المفقود الذي يؤدي إلى إعادة الوجود بشكل مختلف، وهو ما يتماشى مع الفلسفة الوجودية التي ترى أن الوجود لا يتوقف عند نقطة معينة بل هو مستمر في التغيير، في حين أن الغياب يعكس الجانب المظلم الذي يتعين على الإنسان مواجهته ليصل إلى التوازن الداخلي.
الخاتمة:
تستعرض هذه النصوص معاني عميقة حول الوجود، التحول، والغياب عبر توظيف الرمزية والتجربة النفسية في سياقات فلسفية تأملية. إن تركيز هذه النصوص على التحول المستمر والانعكاسات النفسية يعكس الاضطراب الوجودي الذي يعيشه الإنسان في سعيه لفهم نفسه والعالم المحيط به. كما أنها تقدم لمحة عن الشكوك الوجودية وتطرح أسئلة حول معنى الحياة، والتحول، والذات، لتدعو القارئ إلى التفكير العميق في دوره في هذا الوجود المتغير.
، 19 – 1 – 2025