– ذ . أحمد الشواي
المشهد الثاني:
لم يكن أمام البشير خيارٌ سوى الهروب. المدن، بأسوارها العالية ومخافرها التي لا تنام، صارت أشبه بفخاخٍ تنتظر من يقع فيها. كان عليه أن يسلك طريقًا مختلفًا، بعيدًا عن العيون التي تراقب الليل والنهار. وبينما وقف على حافة التلال التي تفصل بينه وبين الجبال الشاهقة، كان يدرك أن هذا الطريق هو ملاذه الأخير.
الجبال كانت تنتظره كحارسٍ صامت، بارد وصارم. تلك القمم العالية التي تحجبها الغيوم نهارًا وتبرز كوحوشٍ سوداء ليلاً، بدت له كملاذٍ آمن، لكنها أيضًا كانت اختبارًا لقوته وإرادته. بدأ البشير رحلته مع أولى خطوات الصعود، حيث امتزجت قدماه بالحصى والتراب، وصار صوت أنفاسه هو الشيء الوحيد الذي يكسر الصمت المخيف.
كلما صعد أعلى، اشتدت الرياح حوله، تضرب وجهه كصفعاتٍ باردة تذكره بقسوة الطريق. كان يرتدي عباءته الثقيلة، ليس اتقاءً للبرد فقط، بل أيضًا ليحتمي من نظرات الطيور الجارحة التي تحلق فوقه وكأنها تحذر الجميع من دخوله هذه الأرض القاسية.
في الوديان الضيقة، كانت الطبيعة تتغير، لكنها لا تقل خطورة. شقوق الصخور كانت تختبئ فيها الثعالب، ومياه الجداول الباردة التي كان يملأ منها قربته كانت تبدو له كصديقٍ يغدر أحيانًا، خاصة عندما ينزلق على الصخور المبتلة أو تتسلل رائحة الحيوانات البرية إلى أنفه. ومع كل خطوة، كان يسمع أصوات الطبيعة، تلك التي لا تزعجه بقدر ما تذكره بأنه غريبٌ هنا، عابرٌ يبحث عن الخلاص.
في المراعي المفتوحة، كان التحدي مختلفًا تمامًا. هذه الأرض المسطحة، الخضراء، بدت خادعةً له. فمن بعيد، قد يرى أضواء رعاةٍ أو قوافل، ولكنه يعلم أن التقدم يعني الاقتراب من الخطر. لذا، كان يمضي بحذرٍ، ينحني أحيانًا ليبدو كأنه مجرد ظل، أو يختبئ خلف الصخور منتظرًا الليل ليواصل سيره.
الوحدة في تلك الأراضي كانت أصعب من أي جوع أو تعب. كان الليل يهبط عليه ببطء، جالبًا معه ذكريات الماضي وأشباح الحاضر. يتذكر منزله الذي تركه، أحلامه التي حملها على كتفيه كحملٍ ثقيل، وأولئك الذين ودعهم على أمل اللقاء مجددًا. كان يشعر أن الجبال تستمع لآهاته، لكنها لا تواسيه، وكأنها تخبره بأن الألم جزءٌ من هذه الرحلة.
رغم كل شيء، لم يكن البشير وحيدًا تمامًا. في إحدى الليالي، وبينما كان يجلس قرب نارٍ صغيرة أشعلها بحذر خلف تلٍ صخري، اقترب منه رجلٌ عجوز يرعى قطيعًا من الماعز. لم يتحدثا كثيرًا، لكن الرجل قدم له قطعة خبز وبعض التمر، وهمس: “الأرض تعرف من يبحث عن الأمان. كن هادئًا، وستوصلك.”
هذا اللقاء البسيط أعاد شيئًا من الأمل في قلب البشير. لم تكن الأرض قاسية بالكامل، كان هناك أناسٌ ما زالوا يمتلكون طيبة القلب.
هكذا استمرت رحلة البشير. بين جبالٍ ووديانٍ ومراعي، كان يسير حاملًا معه أمله الوحيد: أن يصل إلى بر الأمان. كانت كل خطوة تقربه من هدفه، لكنها أيضًا تجعله يدرك أن هذه الرحلة ليست مجرد هروب، بل اختبارٌ لإيمانه وصبره، وربما بحثٌ عميق عن ذاته التي لم يعرف بعد.
( يتبع )