د. عزيز الهلالي :
إنه ذلك الطفل الأشقر ابن المرحوم محمد بالحاج ادريس، كان الطفل يلقب باسم ادريس ولد بوقاع. ما يميز هذا الطفل شَعْرُه الكثيف الذي تتدلى خصلاته على جبينه، فتلامس أطراف رموشه. بحي الطابية يقضي أوقات فراغه في مداعبة كرة القدم مع ثلة من الأطفال يقطنون إما بنفس الحي، أو يأتون من أحياء بعيدة.
صار الطفل شابا في مقتبل العمر يتقن فن التصدي والارتماء، ويعتبر من أحسن حراس المرمى الذين أنجبتهم مدينة القصر الكبير. منتصبا حذرا حاميا شباكه، ، يتدخل بمهارة في وجه الركلات المفاجئة والهجمات المباغتة التي يشنها الفريق الخصم.
في المرحلة الجامعية، كان الشاب منصتا جيدا للأطروحات السياسية المتنافسة التي تعتمل داخل الساحة الطلابية، كان يبحث عن أفق أجمل يلهم رغباته في التغيير والتحديث، كان يتصدى، بحكم موهبته الكروية، لكل الأطروحات التي تسعى إلى تجذير فكرة الإصلاح من داخل النسق السياسي. وبما أن المبدأ ظل تابتا راسخا يشبه رسوخ حارسنا اليقظ، فقد امتد إيمانه بالمشروع المجتمعي ليتمظهر في الحرف الشعري وفي الصوت الغنائي.
في سنة 2009 عن دار النشر ما بعد الحداثة، صدر للشاعر ادريس بوقاع ديوان شعري تحت عنوان ” قصائد مالحة “. وترجم هذا العمل إلى اللغة الفرنسية سنة 2011. في هذا الديوان يحقن الشاعر ملوحة الغضب في بنية الحرف، فيتمرد الحرف وينزع عن المستنقع السياسي غطاء المكر، يطفح على السطح قتلة الأمل ومصاصي الدماء من رجال السلطة ومنتخبين وأحزاب سياسية، لم تمر رائحة الفساد فوق الوحل السياسي، إلا وكان للشاعر معها حضور نقدي، انتقد بلغة فاضحة بنيتها وكشف عن هشاشتها. يقول الشاعر :
يا أعداء الفرحة
إني ألعن الخسة
في كلامكم
والقبح في كلامكم
وألعن القبور
التي سترضى
بشم عفونة أجسادكم
في سنة 2010 صدر للشاعر ادريس بوقاع ديوانه الثاني تحت عنوان “صوت الضمير “. في هذا الديوان تتجاور الملوحة والضمير، ملوحة الوضع السياسي، وملوحة الضمير الأخلاقي بوصفهما حلقات مترابطة في إطار مسلسل طويل من المقاومة والنضال، لكن إذا كانت الملوحة تتسرب كلمات وحروف في ثنايا لغة شعرية عالمة فصحى، فهذه اللغة نمت وكَبُرت في بيئة النخبة المثقفة سليلة الحركة الطلابية، أما صوت الضمير، فقد انزاح من الخاص إلى فضاء المجتمعي العام بمختلف تلاوينه، ولذلك اختار الشاعر لغة الوسط تقع بين الفصحى والعامية، وهذا ما أكسبه رهانيين: رهان صوت امتد أفقيا فشمل العام من الجمهور، ورهان صوت التقطه المغني والملحن وجال به عبر ربوع الوطن، كما فعل بذلك المطرب نعمان الحلو.
في هذا الديوان طرق الشاعر أبواب الغزل والجمال، وأبان عن حسه الرومانسي ، فجاءت قصائده مفعمة بنسائم الحب وعطر الوصف، ومع هذا الجنون في باب الغزل، فهو لم يتنازل عن أداة النقد، انتقد القبح في العلاقات الاجتماعية بكل مظاهره من نفاق وخيانة وكذب، وبقدر ما كان ينتقد بقدر ما كان يبني بالحب شعورا وطنيا وجماليا:
فرسان بلادي
فوق خيول طَايْعَة
حاملين نْخْوَة وشهامة
رُجْلة وْزْعامَة
ومْكاحْل تحكي الأمجاد
بنصر وجهاد
وبينهم فارس مْسْكُونْ
بْحُبْ مجنون
يْرَاقْب بْعْيُونْ
زينة البنات
الواقفة تْزَغْرد
تهتف وتردد
في سنة 2012 توج ديوانه الثالث “أنا قلت اللي عندي” بمقدمة من توقيع الأستاذ الكبير المرحوم أحمد الطيب لعلج، حيث يقول : ” قرأت بإمعان كبير وجهد جهيد إزجال السيد ادريس بوقاع ، وخرجت من هذه القراءة بانطباع يبشر بميلاد شاعر يكتب الزجل بفهم واقتدار، ووعي وانتباه “. (ص، 5). ثم يضيف الأستاذ لعلج قائلا: ” الشيء اللافت للنظر في هذه التجربة الزجلية عند السيد ادريس بوقاع، أنه خاضها بأدوات صلبة، ومفردات مغايرة لكل ما درج عليه المبدعون في الزجل المغربي، وهذه من وجهة نظري إضافة يجب أن نشد عليها، ونباركها ونقول لصاحبها أحسنت”.(ص،5). تعتبر مقدمة الأستاذ لعلج، بمثابة بوصلة توجيه عمقت م تجربة الشاعر بوقاع وأنارت دربه، فالمقدمة بالرغم من مساحتها النصية التي لا تتعدى وريقات، كانت مكثفة بالدلالة والمعنى، والشاعر التقط جيدا المعنى ودلالتها الثاوية خلف المقدمة. في هذه المرحلة انفتح على مطربين وعلى رجالات اللحن والإبداع، فكانت قصائده الزجلية موضوع لحن من قبل مبدعين كبار. وهذا الانفتاح مكنه من بلورة فكرة تجميع الفنانين في إطار موحد بدون حسابات الإقصاء، وكان لهذا المشروع صدى طيبا داخل المغرب وخارجه، حظي على إثره شاعر الزجل الأستاذ ادريس بوقاع بالتقدير والاحترام.
وفي الأخير، أنوه بمسار صديقي الطيب والخلوق، صاحب قاموس لساني يتميز بحلاوة التواصل وصدق المشاعر وسمو الأخلاق، أتمنى له مزيد من التألق حتى يربح الرهان الوحدوي الذي كان أمنيته الكبرى في المجال السياسي، ليرى نوره في المجال الفني والإبداعي.
