السلوك المدني:

7 أغسطس 2025

بقلم : عبد السلام دخان.

يشكل السلوك المدني مدخلا لفهم فاعلية المجتمع وتحولاته المختلفة، حيث تتمظهر ممارسات الأفراد والجماعات في الفضاء العمومي عبر أنماط سلوكية تعكس وعيهم بالمسؤولية، واحترامهم للغير، والتزامهم بقواعد التعايش المشترك. وتكتسب التربية على السلوك المدني أهمية استراتيجية في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المغربي، سواء على المستوى الديمغرافي أو الثقافي أو الرقمي، مما يستدعي إعادة النظر في أساليب التنشئة الاجتماعية وسبل ترسيخ قيم المواطنة المتكاملة.
يتمظهر السلوك المدني في الثقافة الرقمية الحديثة من خلال التواصل عبر الشبكات الافتراضية، حيث يصبح احترام الاختلاف وتقبل التنوع أساسا لترسيخ المواطنة الرقمية وبناء فضاء افتراضي يقوم على الثقة والالتزام والمسؤولية المشتركة.
يندرج السلوك المدني ضمن إطار تربوي وأخلاقي يرتكز على احترام القانون، وتقدير المصلحة العامة، والانخراط الإيجابي في قضايا المجتمع. يعكس هذا الأمر سلوكيات الأفراد داخل الفضاءات المشتركة( المدرسة، الشارع، المؤسسات، وسائل الإعلام)، عبر ممارسة تتجاوز الامتثال الصارم للأنظمة لتشمل المبادرة الفردية، وتأويلا مرنا للقواعد يحقق المصلحة العامة مع الحفاظ على حقوق الأفراد والمجتمع.
وتعد المبادرات المجتمعية رافدا يكمل العمل المؤسساتي، ويمكن دعمها من خلال سياسة عمومية متكاملة تستند إلى مبادئ الحكامة، وتشرك مختلف الفاعلين: المدرسة، والأسرة، والجماعات الترابية، ووسائل الإعلام، والفاعلين الجمعويين، والأحزاب السياسية، في صياغة رؤية شمولية تدمج السلوك المدني في التخطيط التنموي، وتجعله عنصرا أساسيا في تصميم السياسات العمومية، لا سيما في مجالات التربية والثقافة والتواصل المجتمعي.
تطرح قضايا السلوك المدني في المغرب ضمن سياق يتسم بتعدد المرجعيات القيمية وتداخلها، مما يستلزم اليوم بناء تعاقد جديد يرتكز على القيم المشتركة.
تعد الأسرة النواة الأولى لتعلم السلوك المدني، من خلال نقل نماذج العيش المشترك المبنية على الحوار، والتسامح، وتحمل المسؤولية. وفي المقابل، تضطلع المدرسة بدور حيوي في ترسيخ هذه القيم، عبر المناهج الدراسية، والممارسات التربوية، وآليات المشاركة الفعالة. وتساوق هذا الحديث مع ملاحظة مفادها ضعف السلوك المدني من خلال مظاهر تخريب المرافق العامة، مثل كراسي الحدائق، ورمي النفايات عشوائيا، والكتابة على الجدران، والتعدي على الممتلكات، وهي ظواهر مرتبطة بأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية. وفي المقابل تعاني المؤسسات التعليمية من تحديات في ترسيخ قيم المواطنة نتيجة ضعف التنسيق وندرة البرامج الفعالة. وتبرز مبادرات شبابية ومدنية متنوعة، من قبيل حملات تنظيف الأحياء وتجميلها ( الجداريات الفنية، التشجير)، إلى جانب أنشطة الجمعيات التي تعزز قيم الاحترام، والتسامح، والتضامن مع الفئات الهشة مثل المسنين، والمتخلى عنهم، والحالات الاجتماعية الصعبة. ويمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال تكامل أدوار المؤسسات، واعتماد معايير شفافة ونزيهة في تدبير الشأن العام، وفي تنظيم وتسيير العمل داخل الجمعيات المدنية.
حين يشعر المواطن بكرامته ويعامل على قدم المساواة، يتكوّن لديه وعي مدني مرتكز على المسؤولية والمشاركة، مما يُعزز انخراطه الإيجابي في الحياة العامة، ويعمق ثقافة الانتماء والمساهمة الفاعلة في بناء المشروع المجتمعي المشترك. بيد ان السياسة العمومية تحتاج اليوم إلى تجديد مقاربتها، عبر جعل السلوك المدني محورا يشمل مختلف القطاعات، ويدمج ضمن السياسات الثقافية والتربوية والإعلامية، مع ضمان تكامل الأدوار بين المدرسة والأسرة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. ويستلزم ترسيخ السلوك المدني في الوقت ذاته إعادة تأهيل الفضاءات العمومية مع مراعاة هويتها البصرية، بما يضمن تلبية حاجيات مختلف الفئات العمرية، وتوفير الولوجيات الضرورية للأشخاص في وضعية إعاقة، لتعزيز اندماجهم الفعلي، وتحويل هذه الفضاءات إلى بيئات حاضنة لقيم الحوار والاحترام والتعددية الإيجابية.
يمثل السلوك المدني -في تقديري- انعكاسا لنضج المجتمع ووعيه القيمي، مما يعزز قدرته على تنظيم تعايشه وفق منطق التشارك العقلاني، ويعد عنصرا بنيويا في هندسة التنمية المستدامة، لا سيما في بعدها الإنساني.
إن إدماج التربية على السلوك المدني ضمن مشروع وطني متكامل ضرورة ملحة تهدف إلى بناء الإنسان المواطن الواعي بحقوقه وواجباته والقادر على الإسهام الفعال في الشأن العام والدفاع عن القيم المشتركة. وتضطلع المؤسسات الدستورية والمدنية بدور محوري في تحقيق هذا الهدف من خلال توفير الأطر القانونية والتنظيمية التي تضمن ممارسة الحقوق والحريات وتحفيز المشاركة المدنية الفاعلة.
كما تشكل المجالس الجماعية دورا في تفعيل الديمقراطية التشاركية على المستوى المحلي، ودعم المبادرات التربوية والثقافية، وتعزيز انخراط الشباب والمجتمع المدني في الحياة العامة، مما يسهم في إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، ويعزز ثقافة المواطنة المسؤولة. وما ينبغي التأكيد عليه في هذا السياق، هو أن الأمل معقود على الشباب لعدة اعتبارات:
أولا، لأنهم يمثّلون ركيزة المستقبل والقوة الدافعة لأي تحول مجتمعي.
ثانيا، لما يمتلكونه من قدرة على بناء مجتمع مدني متماسك، قائم على قيم المشاركة، والاحترام، وتحمل المسؤولية.
ثالثا، لأن دعم هذه الطاقات الشابة وتمكينها يعد شرطا رئيسا لتحقيق تنمية متوازنة ومندمجة، وصون القيم المشتركة، وتعزيز مسار التغيير الإيجابي في مختلف مجالات الحياة.
إن مستقبل السلوك المدني يرتبط بإرادة جماعية لتجديد القيم، وإعادة الاعتبار للفضاء العمومي، وتطوير خطاب تربوي تشاركي يستند إلى الثقة والمساءلة والالتزام، بهدف بناء مجتمع متوازن وديمقراطي ومندمج.
والسؤال الحارق يبقى: كيف يمكن للمجتمع المغربي، بمختلف فاعليه وتعدد مرجعياته وهوياته المتنوعة، أن يحول السلوك المدني من مجرد شعار أخلاقي إلى ممارسة يومية فاعلة تفضي إلى التحول الحضاري المنشود؟

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading