
بقلم : ذ . أحمد العبودي
حين يُمنح المنبر لمن يملكون البصيرة والحرية معًا، يتحول إلى منصة لصناعة الوعي لا لتكرار المواضيع المستنزفة. ففي بلاد المهجر، حيث تُجاور المساجد الكنائس والمراكز الثقافية، ويعيش المسلم بين هوية يرثها، وبيئة يرتبط بها مستقبله، يصبح الخطاب الديني/الوعظي أداة مصيرية في تشكيل وعي الأجيال، لا سيما الجيل الثاني والثالث الذي ما فتئ يُولد ويخضع لتنشئة اجتماعية وهو يتواصل بلسان غير عربي.
ففي مدينة تقع في ولاية شمال الراين – وستفاليا في غرب ألمانيا وفي مسجد متواضع البناء، بسيط في هندسته، ازدان المشهد بحضور مكثف للشباب والصغار، يجلسون بخشوع وإنصات، حيث يظهر أن وظيفة المنبر أكبر من مجرد خطبة: إنها أداة لصوغ الوجدان، وتغذية العقل، وبناء لهوية قادرة على الصمود والانفتاح معا.
ولأن الخطيب هذه الجمعة كان مدركا لهذه الحقيقة، فقد نسج خطبته بلغة عربية فصيحة، ميسرة وسليمة، تراعي تنوع الحضور من حيث أعمارهم وخلفياتهم العلمية، بعد كل فقرة من الخطبة كان ينتقل باقتدار، إلى ترجمة مضامين الفقرة إلى اللغة الألمانية، بوضوح وانسياب (وفق ما أكده لي مصلون ناطقون بالألمانية) بينما في مساجد أخرى تتولى ترجمة معاني الخطبة مختصرةً أحد المصلين.
هذا المزج البليغ بين لغتين ليس مجرد ترجمة لفظية، بل كان جسرًا للتواصل الفعّال، خاصة مع الجيل الثاني من أبناء المسلمين في ألمانيا، ممن لا يتقنون العربية. لقد شعر الجميع أن الخطبة تعنيهم وتخاطبهم، بلغتهم وبمشاعرهم، بلا استثناء.
مقارنة تكشف الفارق:
إن كانت هذه الخطبة تبدو كتجلٍّ نادر لفعل دعوي متجدد ومتوهح، فإن مقارنتها بما شهدته بعض المساجد الأخرى في جُمَع سابقة، أظهرت أن تلك الخطب تفتقد حرارة الروح وجرأة التجديد، خطب لا تزال تَصدر من فوق المنابر كما لو كانت تقارير فاترة صادرة عن جهات إدارية، تُتلى على السامعين بلا حضور شعوري…
لقد تناول خطيب هذه الجمعة ببصيرة معاني الحج، دون أن يقع في تكرار ممل أو سرد تقليدي، فأبان عن فهم دقيق لمقاصد هذه الشعيرة العظيمة. لقد قدّم الحج لأبناء الجالية الإسلامية كرحلة إيمانية شاملة، تُطهِّر القلب وتُهذب النفس، وتغرس في المؤمن معاني التواضع والانقياد، وتُعلّمه كيف يسمو فوق الشهوات الجارفة والشبهات السخيفة، وكيف يرى المساواة رأي العين بين البشر، على صعيد واحد.
بوصلة للمستقبل… لا للنوستالجيا:
ما أحوجنا إلى هذا النمط من الخطابة الذي لا يعيش على ذكريات الماضي فقط، ولا يتكئ على النوستالجيا العاطفية، بل يوجه بوصلته نحو المستقبل: مستقبل يُمكّن المسلم هناك من أن يعيش دينه بثقة كافية، ويقدّمه للآخرين بلسان العصر، ويكون سفيرا لقيمه بوعيٍ لا يخجل، وانفتاحٍ لا يتنازل.
وقد جسّد الخطيب هذا النهج قولًا وفعلًا، فـألقى خطبته مرتجلة دون أن يكون أسير أي ورقة أو توجيه سلطة معينة ، معتمدا على حضوره الذهني، وتوازنه النفسي ، ومهاراته الخطابية التي ظهرت في نبرات صوته المتغيرة، وتواصله البصري مع الحضور. استخدم لغة الجسد بكل أناقة وانسياب، لوّح بيده حينا، وعبّر بملامح وجهه أحيانا أخرى، فأحيا الكلمات، وجسد لحظة من روح المنبر الخالدة.
بجلبابه المغربي الأصيل وبقية من لكنة لسان سكان شمال المملكة المغربية كان الخطيب يبعث برسالة رمزية بليغة: المسلم في المهجر لا يحتاج أن ينفصل عن جذوره، كي يتفاعل مع محيطه، بل يمكنه أن يحمل هويته بكل فخر وأناقة، ويمنحها أفقًا عالميًا جديدًا.
تأمُّل وتساؤل:
من حق كل من سمع هذه الخطبة أو حضرها حضورا قلبيا أن يتساءل: كم من الخطباء في مساجدنا يملكون كفاءة هذا الخطيب؟ كم منهم يستطيع أن يزاوج بين اللغة والوجدان، وبين الشرع والواقع، وبين الوطن والمهجر، وبين الجذور والآفاق؟!
كلمات أخيرة… ما وراء الخطبة:
ليست كل الخطب سواءً، والمساجد تكون بالضرورة منارات عندما تتوفر الإرادة، ويُمنح الخطيب الكفء حرية الاختيار، وتُفسح له المنابر ليمارس مهمته بوعي ومسؤولية، فلا إبداع من غير حرية، فهي شرط لتفجير الطاقات وصقل المهارات، وإن خطبة واحدة لقادرة على أن تُغيّر مسار شخص، أن تُنير عقل شاب، وأن تُعيد الأمل إلى صدرٍ مثقل…إن هي راهنت على الإبداع الخطابي الحر والملتزم .
وبالرغم من كون الخطيب شابا (الأربعينات)، يعمل مهندسًا مدنيًا وتلقّى تكوينه العلمي في ألمانيا، فقد قدم نموذجًا متكاملًا للخطابة الإسلامية المعاصرة: وعيٌ ثقافي، أداءٌ متين، التزامٌ بالوقت، ودعاءٌ ختاميٌ يجمع بين الخشوع والوعي بقضايا الأمة، وفي مقدمتها نصرة فلسطين المغتصبة.
لقد جمعت خطبته بين فصاحة البيان، ورسوخ المنهج، وتوازن الأداء، وكانت ترجمة عملية لمعنى التبليغ المسدد ، دون تفريط في الأصول، ولا جفاء عن الواقع.